أفكَار

تونس.. الفكري والسياسي في انتفاضات الشتاء ومحذور الفوضى

جمع القوى السياسية والنقابية الفاعلة في تونس تحت المظلة الرئاسية من شأنه أن يخفف من حدة الاحتجاجات
جمع القوى السياسية والنقابية الفاعلة في تونس تحت المظلة الرئاسية من شأنه أن يخفف من حدة الاحتجاجات

يخلد التونسيون منذ 17 من كانون أول (ديسمبر) الجاري الذكرى الثامنة لاندلاع الثورة التي أطاحت بحكم الحزب الواحد والرئيس الواحد، في ظل تراجع واضح لشعارات الثورة، بسبب مراوحة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لمكانها.

لكن اللافت للانتباه في الحراك الاجتماعي الذي يعرفه المشهد السياسي التونسي، منذ عدة أعوام، وتضاعف في الأشهر الأخيرة على خلفية الأزمة السياسية الطاحنة التي يعيشها الحزب الحاكم، هو اختفاء معالم الصراع الفكري والتناقض الأيديولوجي لصالح الوجه السياسي منها.

شتاءات تونس العجيبة تسخن سياسيا كلما برد الطقس أكثر.. فمن السترات الحمراء تقليدا للسترات الصفراء الفرنسية إلى التدفؤ باللحم البشري المشوي بنار الاحتجاجات والبنزين سريع الالتهاب، مخلوطة بحبوب الهلوسة ومكر المهربين، يمضي العام 2018 إلى نهايته الساخنة ليرمي بتونس في حضن عام آخر قد يكون أشد التهابا.. عام انتخابي مجنون بدأت الرؤوس تطير فيه قبل أن تقبل الانتخابات بزمن طويل.

انتفاضات الشتاء ميزة تونسية

يحب التونسيون الحياة كثيرا.. شهور الصيف شهور المتعة والبحر و"الخلاعة" والأعراس.. أما حين يبرد الطقس فيلتهب التونسيون، يصدون برده بفوران دمائهم.. ليس هذا جديدا عليهم.. ففي العام 1978، أي قبل أربعين عاما كاملة وتزيد تفجر التونسيون غضبا واحتجاجا في إضراب عام هو الأول في تاريخ تونس المستقلة، ولم تحسم الأحداث إلا بتدخل الجيش وسيطرته على المرافق العامة.. وحصد الرصاص في ذلك الإضراب التاريخي مئات الروس وغصت السجون بمئات المعتقلين.

 

إقرأ أيضا: السترات الحمراء أو "ثورة" الانقلابيين

بعد عامين فقط وفي شتاء آخر، وتحديدا في يناير/كانون ثاني 1980 شهدت تونس أحداثا جديدة مثيرة.. كوموندوس من ذوي التوجهات العروبية يتسللون من ليبيا القذافي، وبدعم منها، نحو مدينة قفصة الجنوبية ويسيطرون عليها ويعلنون منها الثورة المسلحة على نظام الرئيس العجوز الحبيب بورقيبة.. ولم يحسم التمرد المسلح إلا بتدخل عسكري فرنسي.. وكانت المحاكمات التاريخية الشهيرة لقادة ذلك التمرد والتي انتهت بالعديد من الإعدامات في صفوف قادة ذلك التحرك.

أربعة أعوام بعد ذلك بل تقل قليلا تفجرت في ديسمبر/كانون أول ويناير/كانون ثاني 1984 أحداث الخبز الشهيرة.. انتفض التونسيون من جنوب البلاد حتى شمالها.. كانت انتفاضة أشبه بثورة عارمة.. ثورة خبز وجياع، سقط فيها العشرات من الناس قتلى الرصاص الحي.. ولم تتوقف الأحداث حتى خطب الرئيس العجوز معلنا تراجع الحكومة عن الزيادة في أسعار الخبز..

وفي ديسمبر/ كانون أول ويناير/كانون ثاني 2011 كانت الثورة التونسية، رائدة ثورات الربيع العربي، وكان الهروب الكبير.. هروب الرئيس المذعور من غضب شعبه المنتفض شتاء إلى المملكة العربية السعودية بعيدا جدا عن الغضب الشتوي المتفجر، ولكن بعد ما حصدت قوات أمنه أكثر من 300 من الشهداء، الذين خرجوا في البرد القارس بصدور عارية في وجه الرصاص.

الانتحار حرقا وحلم الثورة الثانية المضادة

نجحت الثورة التونسية رغم كل المؤامرات الكثيرة عليها محليا وإقليميا ودوليا في أن تشق طريقها الوعرة بكثير من الجهد والخوف والتردد بين الإقدام والإحجام، وحافظت على نفسها ثمرة وحيدة يتيمة فريدة لربيع عربي مغدور، عرفت الثورات المضادة كيف تطفئ شموعه واحدة بعد أخرى.. وفشلت في تونس حيث كانت الثورة الأولى، التي عرفت كيف تناور وتراوغ أعداءها وتزوغ من بين أيديهم كما الزئبق المنفلت.

فبسبب كثرة المحاولات الفاشلة للانقلاب عليها ظلت الثورة التونسية تمشي على حافة جرف هار.. تبدو مقبلة على السقوط فيه في أي لحظة، لكنها كانت تنجو منه في كل مرة.. وكلما تعاظمت الشكوك وظن الظانون سوء أن الثورة ستقبر في هذه المحاولة أو تلك، خرجت لهم من الشتاء تنفض غبار الكيد عن عاتقها، وكأنها طائر العنقاء الشهير، يخرج من الموت بحياة متجددة في كل مرة..

كلما اقترب الشتاء الساخن سياسيا توهم البعض أن ينجح في إشعال نار تأكل ثياب الثورة ولحمها، تتدفأ بها قوى الثورة المضادة الحالمة بالعودة لما قبل زمن الحرية.. آخر ذلك ما حصل في مدينة القصرين (وسط غرب البلاد)، حيث هدد شاب بالانتحار.. بدا مطمئنا وهو يتحدث عن الانتحار حرقا.. وسمع صوت بالقرب منه ينبئ بأنه بعد عشرين دقيقة ستجري المسرحية وستشتعل النار في اللحم الآدمي.. سكب الشاب الوسيم البنزين شديد الالتهاب على جسده، بعد أن أطفأ آخر سيجارة في حياته.. وقفت الجموع في ساحة واسعة.. واشتعلت النار.. وكان قتيل جديد يلفظ أنفاسه ويشعل شتاء تونس غضبا واحتجاجا.

هل أشعل الشاب الوسيم النار في نفسه، أم كان مجرد تهديد استغله البعض وأحرقه دون أن يكون منتبها.. الروايات كثيرة.. وصور الفيديو المنشورة تثير الشكوك.. واليقين وشبح الحقيقة غائبان.. عائلة الراحل تتحدث عن تغرير ومؤامرة أنهت حياة الشاب عبد الرزاق الرزقي.. ووزارة الداخلية تتحدث عن معتقلين وعن أموال وبطاقات شحن هاتف توزع على المحتجين والمخربين لاستغلالهم لأغراض سياسية.

تتحدث الإشاعات، وما أكثرها في مثل هذه الأوقات، عن أن الباحثين عن حدث يشعل فتيل ثورة ثانية أقنعوا الشاب بأن يهدد بالانتحار حتى يلفت نظر الحكومة للوضع الصعب لشباب منطقة القصرين المهمشة، وقالوا له إن عليه أن يسكب البنزين سريع الالتهاب على جسده، وأنهم سيتدخلون لمنع الكارثة في آخر لحظة، فتكون مسرحية مرعبة تسلط ضغطا جديدا على الحكومة.. 

 

إقرأ أيضا: هل يحرقون ثورة تونس بولاعة البوعزيزي؟

وتضيف الإشاعات الرائجة أن من أقنع الشاب بالمسرحية الفرجوية المرعبة غدر به في آخر المطاف وأشعل فيه نارا بدأت تأكله من ظهره، فكانت الكارثة: شاب في مقتبل العمر ينتهي إلى الموت حرقا بنار شتوية مرعبة.. وصور الفيديو المتاحة تثير الريبة وتغذي الإشاعات ولا تقدم جوابا حاسما.. وعائلته تثير مزيدا من الريبة.. إنها تؤكد أن هناك من غرر بابنها وأحرقه وقتله بحثا عن ثورة ثانية تنسف ثمار الثورة الأولى وترتد عليها.

الملاحظ أن موت الشاب محترقا لم يحرك الشارع كما كان متوقعا.. بل أثار سيلا من الاتهامات والشكوك ارتدت على المروجين لثورة ثانية.. لكن هؤلاء لا ييأسون.. مازال يناير لم يأت بعد، وهو شهر طويل فيه 31 يوما كاملة، ومخطط فيه لإضراب نقابي عام، وفي كل يوم من أيام هذا الشهر يمكن أن تشتعل النار في هشيم موفور.. والأموال الطائلة القادمة كأكياس الرز من بعض دول الخليج تسيل لعاب كثيرين في تونس، يقدمون أنفسهم لتلك الجهات على أنهم قادرون على إطفاء شمعة الربيع العربي الوحيدة الناجية: ثورة تونس.

ثورة البرجوازية والمهربين والحشاشين

جهات عديدة وخاصة من دوائر المعارضة الجديدة (حزب نداء تونس المحسوب على البرجوازية التقليدية في العاصمة وضواحيها) وجماعة السترات الحمراء القريبة من حزب النداء ومن عدد من رجال الأعمال، حاولت ولا تزال تحاول استغلال الاحتجاجات لإسقاط الحكومة وإرباك الوضع السياسي في سنة انتخابية حاسمة.

الطريف في الانتفاضات والاحتجاجت التونسية تدخل المهربين واستفادتهم من الاحتجاجات.. التهريب تجارة موازية بمليارات الدينارات سنويا في تونس. وقد بلغ الاقتصادي الموازي نحو 54% من مجموع الاقتصاد التونسي. وبما أن الأمن يتابع المهربين ويضايقهم ويحجز بضائعهم، فإن إشغال الأمن بالاحتجاجات وخاصة الليلية، التي يقوم بها ملثمون يحرقون ويخربون ويسرقون، يتيح فرصة للمهربين للتحرك الآمن وإدخال أو إخراج ما يشاؤون في راحة بال ما دام الأمن مشغولا عنهم بمواجهة الاحتجاج وألعاب الكر والفر بينه وبين الشباب المحتج.

الملاحظ أيضا أن أجهزة الأمن وكثير من المشتغلين بالشأن العام قد نبهوا منذ أسابيع إلى دخول كميات كبيرة من المخدرات وحبوب الهلوسة المعروفة محليا باسم "الحرابش" إلى تونس وتوزيعها على الشباب المهمش في الجهات الداخلية وفي أحياء الفقر في العاصمة تونس. وتعول الجهات المسربة لتلك الأنواع من المخدرات لاستغلال متعاطيها في الاحتجاجات وفي عمليات التخريب والسرقة للضغط على الحكومة حتى تستقيل أو تستخدم ضدها بإظهارها في حال العاجز عن توفير الأمن وحماية المواطنين وأرزاقهم.

تدخل رئاسي مطمئن

على غير المتوقع وفي وقت دقيق وحساس من عمر الأزمة، تدخل رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي بجمع الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل ورئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب ورئيس اتحاد الصناعة والتجارة فضلا عن الأحزاب الداعمة للحكومة، وخاصة حركة النهضة وحركة مشروع تونس فضلا عن رئيس كتلة الائتلاف الوطني في البرلمان، للتداول في الوضع السياسي والبحث عن حلول للوضع الاجتماعي الصعب، فضلا عن إعادة إطلاق المفاوضات المتعثرة بين الحكومة واتحاد العمال، لعل ذلك يمكن من تلافي الإضراب العام في الوظيفة العمومية والقطاع العام في 17 يناير/كانون ثاني القادم.

وقد تباينت تأويلات المتابعين للشأن السياسي لتدخل رئيس الجمهورية بين قائل بأن الرئيس يخشى من تدهور الوضع ومن ثورة ثانية يمكنها أن تطيح بالطبقة السياسية كلها بما فيها رئيس الجمهورية ذاته، وبين قائل بأن محاولات نداء تونس حزب الرئيس في إشعال الوضع قد فشلت وأن الرئيس يحاول الآن التدخل للتغطية على هذا الفشل وإظهار دوره كمنقذ للبلاد من أزمتها السياسية والاجتماعية الطاحنة.. 

وهناك من يقول إن الرئيس يحاول تبرئة ذمته من أي تدهور محتمل للمشهد السياسي، وأنه يريد أن يقول إنه بذل جهده لإنقاذ البلاد، ولكن صلاحياته الدستورية المحدودة تجعله غير مسؤول عن فشل المفاوضات بين الحكومة والنقابات لو فشلت تلك المفاوضات.. التأويلات كثيرة ومتكاثرة، وكل مؤول من موقعه ينظر للمسألة.

الثابت أن جمع القوى الفاعلة من حكومة وأحزاب ونقابات تحت المظلة الرئاسية من شأنه أن يخفف من حدة الاحتقان السياسي والاجتماعي.. وإذا نجحت الطبقة السياسية في اجتياز هذا الشتاء الساخن من دون خسائر كبيرة للبلاد فإن تونس تكون قد وضعت نفسها جديا في مسار تثبيت التجربة الديمقراطية وتثبيت الديمقراطية آلية وحيدة للتداول على السلطة، مهما كانت نقائصها وسلبياتها.

 

إقرأ أيضا: مع صعوبة الأوضاع.. إلى أين تتجه أزمات الاقتصاد بتونس؟

التعليقات (0)