مقالات مختارة

في ذكرى الانتفاضة الأولى

عاطف ابو سيف
1300x600
1300x600

تظل الانتفاضة الأولى واحدة من أهم مراحل النضال الوطني الفلسطيني، ولا يمكن لأبناء جيلي الذين هم جيل الانتفاضة في الحركة الوطنية أن يفوتهم تذكر تلك التفاصيل المهمة، التي جعلت من هذه الانتفاضة علامة فارقة في التاريخ الحديث والمعاصر للشعب الفلسطيني. 

ففي كل مرة يمر شهر كانون الأول وينتهي أسبوعه الأول ويأتي التاسع منه حتى تعود بكرة الذاكرة مثل بكرة السينما لإعادة بث تلك اللحظات من الزمن الجميل الذي يبحث عنه الجميع، ويتذكره الجميع بحنين قاهر يفرض نفسه، ويتسلل معه حزن دفين يحمل الكثير من الحسرة. 

الانتفاضة الأولى كانت أياما مختلفة. وبالقدر الذي تندب فيه جداتنا الماضي عبر التحسر عليه فإنه يمكن لنا، ونحن نتوارث تلك العادات، أن نندب تلك اللحظات خاصة إذا ما تمت مقارنتها بالراهن، بما يحمله من أزمات، وما يعترض طريقنا فيه من عثرات. لكن المؤكد أن أهمية الانتفاضة ليست من كونها جزءا من الماضي الذي يستعاد بالحنين وألم التذكر، ولا لأن الزمن اللاحق لها زمن خائب عاثر، بل لأنها فعلا شكلت لحظات مختلفة.

يمكن لعلماء الاجتماع أن يدلوا برأيهم حول العادات الاجتماعية التي ظهرت خلالها مثل التضامن والتكافل الشعبيين، والوفاق الاجتماعي وصلابة الأواصر الاجتماعية، كما يمكن للتربويين أن يشيروا إلى ظهور التعليم الشعبي والبديل بعد إغلاق المدارس والجامعات، والباحثين المجتمعيين أن يتحدثوا بإسهاب عن تمظهر العمل التطوعي والخدمة الذاتية للمجتمع وتبدل المجتمع والسلم الأهلي مقابل العنف الذي تبديه آلة القتل التي يمتلكها الاحتلال، وعلماء السياسة أن يشيروا إلى التفاعل السياسي الكبير بين المجتمع وقيادة العمل الوطني والحركة الوطنية وظهور قيادات ميدانية أخذت قوتها من قيادتها للفعل الكفاحي اليومي، وتموقع الحركة الطلابية كرائدة للاشتباك مع قوات الاحتلال، ويمكن للحركة النسوية أن تفخر بالدور الريادي الكبير الذي قامت به المرأة الفلسطينية ليس كما درجت العادة في التوصيف بأنها أم الشهيد وزوجة الأسير وأخت الجريح، بل بوصفها مقاتلة جنبا إلى جنب مع الرجل في الاشتباك المباشر مع قوات الاحتلال، فالصبايا والسيدات والعجائز كن يرشقن الحجارة ويتصدين لقوات الاحتلال ببسالة منقطعة النظير. 

لقد نقلت كاميرات المصورين وعدسات الصحافيين وتقارير المحررين آلاف الصور الفوتوغرافية والقلمية التي شهدت بهذه البطولات الخارقة التي قامت بها المرأة الفلسطينية، أو قام بها الطفل الفلسطيني وهو يواجه الجنود المدججين بالسلاح، وحق لأطفال فلسطين أن يعلموا العالم كما طلب منهم نزار قباني في قصيدته الشهيرة عن الانتفاضة. 

وبدا الجندي الإسرائيلي المدجج بالسلاح عاجزا عن العبور بالأرض فوق جهنم والسماء فوقه جهنم بقصيدة سميح القاسم الخالدة. 

ما أرمي له هنا أن تلك اللحظات الخالدة تحمل أكثر من معنى وتشير إلى أكثر من حقيقة، ويمكن الوقوف على أكثر من زاوية من زوايا فعلها المستنير. 

لكن المؤكد أنها ستظل مع هذا، ودون الانتقاص من تلك التفاصيل لحظات مفصلية في تاريخنا. 
كان ذلك أحد أيام كانون الأول الباردة مثل يوم أمس. وكان المخيم قد غفا على أزيز الرصاص وقنابل الغاز المسيل للدموع بعد دفن العمال الذين دهسهم المستوطن. 

البارحة كانت ليلة عصيبة، تمت مواراة الشهداء الثرى، وكان شيء في الأفق يقول إن ما جرى بروفة لحدث أضخم سيكون في اليوم التالي. 

لم يخطط أحد لذلك. على الأقل فإن الفتى الذي كنته في ذلك الزمن من العام 1987 هكذا فهم الأمور. لم يقل لنا أحد: اخرجوا، ولم نخطط لنخرج جماعات ولم نتفق فيما بيننا على شيء. هكذا غفونا ونحن نتذكر ما حدث بألم. 

ليلتها انتفض المخيم والبلدات المجاورة والضواحي ضد الجيش بغضب يليق بتوديع عمال بسطاء ذهبوا ليلتقطوا لقمة عيشهم فدهستهم عربة مستوطن حاقد. 

في الصباح كان أستاذ الجغرافيا والتاريخ منهمكا في الحصة الأولى في شرح التاريخ الكنعاني. كان منهاجنا مصريا بامتياز. وكنا نحفظ كل تاريخ العائلات الفرعونية ومراحل الحضارة المصرية القديمة. ولم يكن أي شيء يشير إلى الكنعانيين ولا أي شيء له علاقة بنا كفلسطينيين. 

لكن معلمنا الوطني كان يجتهد في حرف مسار المادة التعليمية من أجل أن نكبر على تلك التعاليم الوطنية الخالدة. 

وقبل أن تنتهي الحصة الأولى كان الغضب قد طفح وفار في كل الفصول وفي المدارس المجاورة في شارع مدارس الأولاد في المخيم. 

وخرجنا لا نعرف كيف. فجأة بدأ الطلاب يضربون على الطاولات في إشارة للغضب ثم خرجوا مندفعين كنهر من الفصول إلى خارج المدرسة حيث طلاب جميع المدارس قد خرجوا وتوجهوا غربا نحو مركز الجيش. 

في اللحظة ذاتها كان طلاب مدرسة الفالوجة الثانوية على تخوم المخيم الغربية قد خرجوا ذكورا وإناثا ثم مدارس الإناث الإعدادية والابتدائية. 

ودارت الاشتباكات في كل اتجاه مع الجيش الذي خرج من مقره أو ما نسميه "المركز" يطلق الرصاص والغاز المسيل للدموع. 

في محيط المخيم كان ثمة سوافي رمال هي آخر ما تبقى وقتها من كثبان الرمال الصفراء الزاهية التي كانت تنتشر في الأماكن الفارغة أو في محيط المخيم، الآن تحولت تلك السوافي إلى مستشفى خاص لا يعمل حتى اللحظة. 

في وسط تلك السوافي دارت الاشتباكات وسقط صديق طفولتي وجاري حاتم السيسي ليكون أول شهيد للانتفاضة وليؤرخ للانتفاضة بسقوطه. 

في الليلة الماضية كنا نلهو بكرة القدم ونتصارع عليها قبل أن تسقط في المجاري المفتوحة التي كانت تسير في وسط الشارع مثل نهر صغير. 

في ذلك الصباح وقبل الظهيرة سقط حاتم مضرجا بدمائه. إنها ذات اللحظة التي كانت الغضب مثل نار تحت الهشيم يسير بثبات في كل اتجاه.

كل منا له روايته عن الانتفاضة وعن تلك اللحظات وكيف بدأت وكيف سارت وتواصلت والعادات التي نمت بيننا ونحن نتبارز من يقذف حجارة أكثر على الجنود، ومن ثم كيف نلتقي في سجن أنصار ونتبادل الحكايات. 

أبطال عديدون ونحن نتذكر تلك اللحظات لا بد أن نرفع لهم القبعات، قادة حقيقيون كانوا في الأزقة والحارات، أبطالا خارقين للعادة وهم يقودون مجموعات الانتفاضة وينظمون شؤون حياة الناس. 

في هذا اليوم من كل عام لا بد أن نتذكر هؤلاء القادة المجهولين، كبار القامة. كل منا يعرف الكثير منهم، فليقل لهم: شكرا من القلب.

عن صحيفة الأيام الفلسطينية

0
التعليقات (0)

خبر عاجل