كتاب عربي 21

عن الرفيق الذي لم نترفق به

جعفر عباس
1300x600
1300x600
إلى عهد قريب، ارتبط اسم الهند في الأذهان بالمجاعات والأوبئة، بدرجة أن الأم  تيريزا صنعت اسمها ومجدها، بتقديم الطعام والكساء والماء لفقراء الهند، ونالت عن ذلك جائزة نوبل للسلام.

واليوم تقف الهند في الساحة الدولية قوة عظمى ناهضة، وعضوا في مجموعة برِكس التي تضم البرازيل وروسيا والصين وجنوب أفريقيا؛ ولم تحقق ذلك بالكثرة العددية لسكانها، ولا بثروة مفاجئة من مصدر طبيعي، بل بالتنمية البشرية التي قوامها التعليم.

أساس التنمية

اهتمت الحكومات المتعاقبة في الهند بجودة التعليم عبر جميع المراحل الدراسية، وخريجو "المعهد الهندي للتكنولوجيا" بفروعه الخمسة، وجامعتي نيو دلهي وحيدر أباد، هم قوام سيليكون فالي في الولايات المتحدة، الذي هو بمثابة القيادة العالمية لتكنولوجيا المعلومات.

الهندي ساتيا ناديلا، الذي صعد الى منصب الرئيس التنفيذي لعملاق الانترنت مايكروسوفت، وهو نفس المنصب الذي كان يشغله مؤسس الشركة بيل غيتس، هو مهندس السحاب الالكتروني (كلاود)، الذي يجعلنا نقوم بتخزين ما نريد تخزينه في مستودع افتراضي، بعيدا عن الأجهزة الرقمية.

ومخترع ذلك الإصبع العجيب (الفلاش)، الذي يقوم بنسخ وتخزين ثم تنزيل البيانات والصور، هو الهندي أجاي بهات، خريج جامعة بارودا الهندية، وهو اليوم كبير مهندسي شركة إنتل، أشهر صانعي أجهزة الكمبيوتر.

راكيش أغروال وراميش وادواني وفينود كوسلا ورام شيرارم وجون كابور وأنيل بهوسري مليارديرات هنود في قائمة أثرى أثرياء العالم لعام 2018 حسب مجلة فوربس، ولم يحققوا الثراء بالصدفة أو الوراثة أو المضاربة، بل بالمعرفة والعلم الأكاديمي والتطبيقي، وهناك ثلاثمائة وثلاثون هنديا صاروا مليونيرات بكد عقولهم في سيليكون فالي، وهناك الآلاف منهم في هذا "الوادي"، يديرون ويهندسون كبريات شركات الكمبيوتر في الولايات المتحدة.

وفي العالم العربي تتردد عبارة تحسبني هندي من باب استنكار تعرض القائل لمحاولة "استعباط"، ولإثبات أن القائل ذكي، والشيء الذي لا يصدق عند العرب يوصف بأنه فيلم هندي، مع أن أكبر سوق للأفلام الهندية خارج حدود الهند، هو العالم العربي.

الهنود والخليج العربي

وتأتي إلى منطقة الخليج العربي، وتحسب أن مئات الآلاف من الآسيويين فيها بعثيون أو شيوعيون، لأن نداءهم يتم بكلمة "رفيق"؛ وشيئا فشيئا تدرك أن الرفاق هم الهنود فحسب، أما بقية الأجناس فلكل واحد منهم اسم "عَلَم".

خلال سنوات عملي في شركة الإتصالات القطرية، كان الهنود يشكلون القوام الفني للشركة، ويشغلون معظم وظائف الدرجات الوسيطة والدنيا، ولكن وفي السنوات الأخيرة صارت العمالة الهندية الماهرة، عملة يصعب الحصول عليها، لأنها صارت تفضل البقاء في وطنها، بل إن سيليكون فالي الأمريكي نفسه بات عاجزا مؤخرا عن استدراج الهنود  للعمل فيه.

لا يوجد هندي يطلب العلاج خارج بلاده، ليس لضيق ذات الجيب ولكن لأن الهند تنجب خيرة الأطباء، وصارت من ثم مزارا للمرضى العرب والأوربيين، خصوصا أولئك طالبي العلاج بسعر التكلفة.

فجودة التعليم في الهند أدت إلى جودة مُخرجات التعليم، فكان أن اكتشف أرون كومار وساتيش غيريماج الجين المسبب لما يعرف بضمور المخ والتخلف العقلي، ومستشفى أبولو التخصصي في الهند قام بتطوير تقنية سايبر نايف، التي تقوم بتدمير الخلايا السرطانية في جسم المريض عند العلاج الإشعاعي، دون المساس بالخلايا المعافاة؛ وللهند الريادة في مجال زراعة الجزء الأمامي من العين بالكامل في جلسة جراحية واحدة.

أدرك أن كلماتي هذه تجعلني أبدو وكأنني ضابط علاقات عامة للهند، ولكن عزائي هو أن الهند ليست بحاجة لمرتزقة مأجورين لتحسين صورتها الخارجية، لأن منجزاتها أعلى دويا من أي كلمات ثناء وإشادة بحقها.

يرفع بيتا لا عماد له

مرة أخرى فالهند شاهدة على أن العلم يرفع بيتا لا عماد له، بينما الجهل هدم ـ كما يشهد حال أوطاننا ـ بيت العز والشرف، وحتى لو حكمنا على الهند بمنتجات بوليوود، وهي مدينة السينما التي أنشأها الهنود تيمُناً بهوليوود، فنحن لسنا بالحكم التُرْضى حكومته* لأننا كـ "أبو سن واحدة الذي يضحك على أبو سنتين"، وصدق الممثل المصري الراحل رشدي أباظة صاحب مقولة إن السينما همبكة، وهذه كلمة من فصيلة "خُرُنق" التي معناها في لفظها.

الهند وقبلها أوروبا وأمريكا وكوريا واليابان، شيدت أمجادها العصرية التي أدت إلى تحسين مستويات معيشة مواطنيها، بالتركيز على تنمية العقول وتشجيع الإبداع والتجريب والابتكار، بينما الذين يستنكرون أن نحسبهم هنودا، يتباهون بركوب السيارات الجاغوار والرينج روفر التي باتت شركة تاتا الهندية تنتجها.
 
أقول مجددا إن الهند في طريقها للتحول الى قوة عظمى اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، ولكن دون جعجعة، والطريق أمامها ليس معبدا تماما، ولكنها قطعت شوطا طويلا في رصفه، بأن جعلت البنية التحتية لنهضتها، النهوض بعقل المواطن، وقريبا سنتهافت نحن نتاج المؤسسات التعليمية البائسة بفعل فاعل مبني للمعلوم، لكسب رفقة الرفيق كومار.

*(مَا أَنْتَ بِالحَكَمِ التُرْضَى حُكُومَتُهُ * وَلاَ الأَصِيلِ وَلاَ ذِي الرَّأْيِ وَالجَدَلِ.. بيت شعر هجائي للفرزدق يستشهد به  علماء اللغة، على جواز إدخال أل التعريف على الفعل)
التعليقات (0)