كتاب عربي 21

التوتّر الأمريكي التركي في سياق أكبر من التحولات

ساري عرابي
1300x600
1300x600
تبدو الخلافات بين أمريكا وتركيا/ أردوغان؛ أوضح من أن تُطمس في حمأة الخصومات السياسية والأيديولوجية بين الفرقاء العرب. وذلك لا يعني أبدا أن أزمة الليرة التركية لا تجد لها جذورا في مشكلات بنيوية عميقة في هياكل الاقتصاد التركي، كما يشير العديد من الخبراء الاقتصاديين. وإذا لم يكن بمقدورنا إهمال المسألة الاقتصادية برمتها حين الحديث عن التحولات العميقة التي تخترق العالم اليوم، فإنّنا سنترك ما ينبغي تركه لخبراء الاقتصاد، ونضع أيادينا على ملامح التحول العميقة وإن كانت بطيئة، وفي القلب منها تركيا التي هي بمنحى ما قلب العالم الراهن جغرافيّا واستراتيجيّا.

حديث ترامب عن زيادة الرسوم الجمركية على واردات الحديد والألمنيوم من تركيا في سياق واحد؛ ضمّ فيه إلى ذلك حديثه عن انخفاض الليرة التركية وتراجع علاقات تركيا بأمريكا.. لم يكن سوى كشف عمّا هو كامن من توتر في علاقات البلدين منذ فترة، والأمر نفسه يمكن قوله عن تهديدات نائب ترامب، مايك بنس، لتركيا، بخصوص القس الأمريكي أندرو برانسون، وكذلك مقالة أردوغان في نيويورك تايمز التي يقول فيها إن من شأن الإجراءات الأمريكية التي تضرّ بلاده أن تدفع تركيا للبحث عن أصدقاء جدد.. ذلك كلّه ليس سوى قمة جبل الجليد في توتر علاقات البلدين.

هذه التحولات في علاقات البلدين الحليفين، مقرونة في الوقت نفسه بتحولات في البلدين نفسيهما، فصعود ترامب لرئاسة الولايات المتحدة، هو بدوره مظهر لتراجع كفاءة الإدارة في الولايات المتحدة، وانقسام المؤسسة والنخبة الحاكمة منذ أواسط التسعينيات وصولاً إلى ترامب.

تمرّ الولايات المتحدة بتحديات تكنولوجية واجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، في مجتمع كبير وغير متجانس، مصحوبة بتآكل الطبقة الوسطى، وتصاعد الانقسامات المجتمعية، وتراجع الإحساس بالهوية الجامعة، واستهداف المهاجرين، وغير ذلك، مما لا يبدو أن النخبة الحاكمة العميقة قد استعدت لمواجهته جيدا. في مثل هذه الظروف كان صعود ترامب، ولا ريب أن مثل هذه التحولات في إمبراطورية من نمط الولايات المتحدة الأمريكية تكون شديدة البطء، وتحتاج ملاحظة دقيقة، وقراءة للقفزات الكبرى في مسيرة الإمبراطورية.

كذلك كانت التحولات بطيئة في تركيا التي دفع بها أردوغان بدأب ومثابرة، قادما من الهامش المضطهد لقيادة هذا البلد المعقد في وضعه الاجتماعي الداخلي، وفي موقعه من العالم، لا جغرافيّا فحسب، ولكن في مصالحه السياسية والاقتصادية، والأعباء الهائلة الملقاة على موقعه الاستراتيجي، والأثمان الباهظة التي يمكن دفعها ثمنا لإرادة الاستقلال، أو التحول نحو الفاعلية الإقليمية والخروج من الذيلية. 

لم تكن النجاحات التي حققها أردوغان سهلة، ومرّت بعقبات قاسية بيّنت حجم التحدي وبطء التغيير وصعوبته، كما أن طموحاته، ولا سيما في السياسات الإقليمية والدولية، تعثرت إلى حدّ كبير بعض الفشل والإخفاق مفهوم، بالنظر إلى جانب من تلك العُقَد، وتاريخ تركيا الأتاتوركية القريب، فقير الخبرة في المنطقة ومشكلاتها، بعدما كانت ذات دور وظيفي لصالح الغرب، منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، وخاصة أثناء الحرب الباردة.

على أيّ حال، حفر أردوغان بعمق تلك التحولات البطيئة وغير المكتملة، حتى تصادمت مصالحه الإستراتيجية وطموحاته الإقليمية، أكثر من مرة، مع حلفائه في الناتو، وبدا في تلك المرات وحيدا، أو غير مكتمل الأدوات والإنجازات، كما في الأزمة السورية، ومحاولة الانقلاب الفاشلة، وأزمته العابرة مع روسيا. وللمفارقة في بعض تلك المرات، وجد نفسه أقرب للتعاون مع فرقاء هم في عداد الخصوم التقليديين، كالإيرانيين والروس، الذين لاحظوا دورا غربيّا في محاولة إقصاء أردوغان، وتنامي ما يمكن أن يجمعهم معه، بالرغم من العديد من الملفات الشائكة بين الجميع. باتت السياسة تتعقد وتتجرد من مظاهرها القديمة، وتتحوّل عن أشكال التحالفات السابقة.

ومع أن الأوروبيين هم المشاكسون التقليديون لأردوغان في الآونة الأخيرة، فإنهم أظهروا دعما لتركيا في أزمة الليرة، ومعارضة لإجراءات ترامب ضد إيران. وإذا كان لا ينبغي أن تغيب عن الاعتبار هنا مخاوف القوى الاقتصادية الكبرى (كألمانيا التي تعتمد على التصدير)، من ركود يضرب اقتصادها أو من تفكك الاتحاد الأوروبي، السوق الكبرى لصادراتها، فإن تدهور تحالفات الولايات المتحدة مع حلفائها التقليديين وبالصورة الجارية الآن، من سمات تراجع الإمبراطوريات الكبرى، لاسيما مع صعود الشكّ تجاه الحليف الأقوى.

يعتمد التمدد الإمبراطوري على إدارة تجارة خالية من العوائق قدر الإمكان. وللمفارقة، فإن استعادة مكانة أمريكا بالنسبة لترامب تأخذ شكل العقوبات وفرض الرسوم الجمركية وزيادة عقبات التبادل التجاري، وهو أمر يمسّ أقرب حلفاء الولايات المتحدة، كما يمسّ خصومها المفترضين، كروسيا، أو العملاق الاقتصادي الصيني الذي يملك ما يكفيه من مخاوف متعلقة بالتصدير والأسواق أو بحجم الديون.

في الطرف العربي، وحين النظر إلى مواقف السعودية والإمارات، حلفاء إدارة ترامب الموثوقين في المنطقة العربية، إلى جانب حكومة نتنياهو، نلاحظ مفارقة أخرى، وهي أن القوّة السنيّة الكبرى، تركيا، تجد نفسها أقرب سياسيّا وفي مخاوفها؛ للقوّة الشيعية الكبرى، إيران، بالرغم من المصالح المتنافرة بين البلدين في عدد من الملفات، وذلك بعيدا عن السعودية التي تدير سياسة إعلامية شديدة المناوأة لأردوغان، وبذلك يكتمل مثلث العداء لأردوغان؛ المتشكل من ترامب وحلفائه العرب ونتنياهو، ويعطي ذلك مؤشّرا على احتمالات التحول الممكنة خلال السنوات القادمة.

وبصرف النظر عن الأسباب المزدوجة التي وسّعت الهوّة بين السعودية وتركيا، فإن السعودية اليوم تعاني من فشل خارجي في حربها في اليمن، وتعقيدات مطّردة في شؤونها الداخلية والاقتصادية. وبينما تعاني تركيا كذلك أزمات اقتصادية وتعبر مرحلة غموض في تحالفاتها وعلاقاتها، فإنّ الأخيرة بتمددها الاقتصادي والدبلوماسي والدعائي، ولا سيما في أفريقيا ومحيط الجزيرة العربية، المستند إلى عناصر قوّة تزيد على ما لدى السعودية في الوقت الراهن. وبالنظر إلى المخاطر التي تتربص بحلفاء ترامب الذين صاروا بشكل أو بآخر جزءا من الانقسام الأمريكي الداخلي، فإن تركيا لو تجاوزت أزمتها الراهنة، قد تشكل في وقت لاحق وبتحالفات جديدة، من غير المستبعد أن يكون ضمنها إيران، قوّة كبيرة من شأنها أن تغيّر من وجه المنطقة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وحينئذ ستكون "إسرائيل" إحدى أكبر الخاسرين. أوروبا بدورها لن تأمن من أن تكون ساحة لنتائج سياسات ترامب تجاه تركيا، أو أن تكون من دافعي ثمن التحالف التركي الإيراني لو حصل!

نحن لا نتحدث عن مشهد سيتبلور غدا، ولكننا نتحدث عن بضع سنوات قادمة سيزول فيها الغموض الاستراتيجي الذي يلفّ العالم. وبقدر ما تبدو الصورة قاتمة للكثير من المتضررين اليوم من سياسات أمريكا وحلفائها، فإنّ التحولات الجارية تمنحنا مؤشرا على احتمالات أخرى قادمة تتجاوز ألم اللحظة الراهنة، وما توتر العلاقات الأمريكية التركية بأبعادها العميقة إلا بعضها، ومن ذلك البعض أيضا الثورات العربية التي خلخلت أرضنا الصلبة، وصارت فاعلا في تغيير العالم وصياغة مستقبلنا..
التعليقات (0)