مقالات مختارة

قنابل الرئيس

عثمان ميرغني
1300x600
1300x600

من بين أكثر من عشرين قمة أميركية - روسية/ سوفياتية عقدت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قد تكون قمة الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في هلسنكي يوم الاثنين الماضي هي الأغرب. فقد عقدت في ظل موجة من المخاوف والترقب لما يمكن أن يصدر من ترمب خلال اللقاء مع داهية مثل بوتين، وانتهت بعاصفة من الانتقادات والاتهامات التي وصلت إلى حد التشكيك في وطنية الرئيس الأميركي، بل وتخوينه من قبل بعض الأطراف.


سؤال من صحافي أميركي وضع ترمب في مأزق لم يحسن التعامل معه، فجاء الرد بمثابة قنبلة غطى انفجارها على أي مكسب محتمل من اللقاء. الغريب أن السؤال كان متوقعاً لأنه يدور حول موضوع التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأميركية الماضية، الذي ظل يحاصر ترمب وإدارته منذ بدء رئاسته، ومع انعقاد القمة كان لا بد لفريق الرئيس من أن يكون جاهزاً بردود تساعده على تفادي المطبات. ما حدث كان مختلفاً؛ إذ إن ترمب قدم رداً جعله هدفاً لموجة من الانتقادات اللاذعة، وأحرج حتى أولئك الذين اعتادوا الدفاع عنه.


ترمب في رده على الصحافي الذي سأله عما إذا كان يؤيد موقف أجهزة الاستخبارات الأميركية التي أجمعت على أن روسيا تدخلت للتأثير في انتخابات الرئاسة، أم إنه يصدق النفي الروسي، حاول تجنب إدانة روسيا، وقال إن بوتين نفى الأمر، وليس هناك من سبب يدعوه لأن يرى أن روسيا قامت بالتدخل. كان هذا الرد كافياً لكي تقوم الدنيا ولا تقعد في الوسط السياسي والإعلامي الأميركي، لكن ترمب لم يتوقف عند ذلك، بل انبرى للهجوم على مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) وعلى «لجنة مولر» التي تتولى التحقيق في موضوع التدخل الروسي، وهو ما عُدّ إهانة للمؤسسات الأميركية و«خنوعاً» أمام بوتين.


صحيفة «نيويورك تايمز» نشرت افتتاحية بعنوان «ترمب وبوتين ضد أميركا»، بينما عدّ معلقون في «سي إن إن» تصريحات ترمب عاراً. حتى صحيفة الـ«غارديان» البريطانية عنونت بأن كلام ترمب «أمر لا يقل عن الخيانة»، وذلك في إشارة إلى التعبير الذي استخدمه مدير وكالة الاستخبارات الأميركية الأسبق جون برينان وكرره آخرون في تعقيبهم على تصريحات الرئيس. أما في الوسط السياسي، فقد تعاقب المنتقدون الذين استفزهم الكلام في صب غضبهم على الرئيس الذي رأوا أنه انتصر لبوتين على حساب أميركا ومؤسساتها، لكن ربما كان مصدر القلق الأكبر للبيت الأبيض أن عدداً من مناصري ترمب إضافة إلى وجوه بارزة في الحزب الجمهوري انضموا إلى المنتقدين.


في محاولة للحد من الأضرار، اضطر ترمب للخروج ببيان تبريري في اليوم التالي للقمة عزا فيه ما حدث إلى زلة لسان، لأنه بدلاً من أن يقول: «لا أجد سبباً بأن روسيا قامت بالتدخل»، كان يجب أن يقول: «لا أجد سبباً بأنها لم تقم بالتدخل». وعرج على مسائل نحوية بالحديث عن صيغة «نفي النفي»، وهي أمور لم تعرف عنه البراعة فيها، مما يوحي بأن البيان اجتهاد من مستشاريه ومحاولة يائسة، وقد يقول البعض بارعة، لامتصاص الأزمة وإطفاء نيرانها قبل أن تكبر وتؤثر على الجمهوريين في الانتخابات النصفية للكونغرس بعد أربعة أشهر.


المشكلة أن ترمب أدمن إثارة الزوابع ولا يستطيع الابتعاد عن التغريد على «تويتر»؛ إذ لم تمضِ ساعات حتى عاد إلى التصريحات الجدلية بقوله إن اجتماعه مع بوتين كان أفضل من اجتماعه مع حلفائه في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهو ما عدّه معلقون مؤشراً آخر على أنه ينحاز لبوتين بينما يضعف أميركا وحلفاءها. المشكلة الأخرى أن تراجعات ترمب الكثيرة عن تصريحاته تضعف مصداقيته وتجعل كثيرين يترددون في قبول تعهداته ومواقفه... فقبل وصوله إلى هلسنكي كان قد خلف وراءه في جولته الأوروبية القصيرة سلسلة من المواقف المتضاربة والزوابع السياسية والإعلامية؛ هاجم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وعدّها «أسيرة لروسيا» لاعتمادها على استيراد الغاز منها، ثم عاد ليقول لاحقاً إنه يتفهم موقف ألمانيا في احتياجها للغاز. انتقد حلف الناتو واتهمه مجدداً باستغلال أميركا التي تتحمل نحو 70 في المائة من ميزانيته، مشيراً إلى أن الأعضاء الآخرين يحتاجون إلى الحلف أكثر مما تحتاجه الولايات المتحدة، ثم عاد ليشيد بدور الناتو والتزام واشنطن به.


وقبل زيارته للندن انتقد أداء حكومة رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي في معالجتها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، عادّاً أنها لا تحقق للناس ما صوتوا عليه في استفتاء الخروج. وقبل مغادرته بريطانيا كان قد عدل موقفه مشيداً بقيادة ماي، عادّاً أن معالجة الـ«بريكست» شأن بريطاني.
هذا هو ترمب الذي يحير خصومه وحلفاءه على حد سواء، ويجعل إدارته تترنح من أزمة إلى أخرى.

 

هناك بالطبع كثيرون يتمنون سقوطه، لكن الأمر سيبقى مجرد تمنيات على الأقل في المستقبل المنظور؛ فالقاعدة الانتخابية التي أوصلته إلى الرئاسة لا تزال داعمة له، والوضع الاقتصادي المتحسن يفيده، وخطابه الشعبوي يجد صدى له بين كثير من الأميركيين. وبحكم طبيعته وربما فهمه لقاعدته الشعبية، فإنه ليس من المتوقع أن يتوقف عن الفرقعات «التويترية»، أو يغير من أسلوبه المثير للأزمات.

 

الشرق الأوسط اللندنية

0
التعليقات (0)

خبر عاجل