مذكرات عاكف

صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (4)

محمد مهدي عاكف - جيتي
محمد مهدي عاكف - جيتي

ضد الحكومة

كان انتشار الإخوان، ونشاطهم، وحيويتهم، وخطباؤهم، مؤثرين للغاية، وقد ساهم في تحقيق ذلك ما كانت تتمتع به الجامعة من الحركة والقداسة فعلا، بحيث لا يستطيع ضابط أو عسكري أن يدخلها. والدليل على ذلك، أن أحمد ماهر، رئيس الوزراء، عندما دخل الجامعة عام 1944 ليخطب في الطلبة؛ نظمنا مظاهرات ضده، نادينا فيها بسقوطه، فكانت الجامعة بحق حصنا من حصون شباب الجامعة كلهم، وليس الإخوان فقط.

ولعل الجميع يتساءل عن طبيعة التربية التي كان يتلقاها إخوان الجامعة في تلك الفترة، تلك التربية التي جعلتهم في بؤرة الأحداث. اعلم أن أول ما ينبغي عليك معرفته في هذا الشأن هو أن قسم الطلاب في المركز العام للإخوان قسم تربوي في الدرجة الأولى؛ مهمته إعداد الرجال قبل أي شيء آخر.

في صالونات الأدب

وكان الأستاذ البنا يأمرنا بأن نذهب للندوات التي يعقدها كبار الكتاب والأدباء في بيوتهم، مثل العقاد، ومحمود شاكر، والمازني، والتي تعرف باسم الصالونات الأدبية، وكنا نذهب ونناقش، وكنا نتسابق جميعا لمحب الدين الخطيب في جزيرة الروضة، وتعلمنا من هذا الرجل أحاديث كثيرة، وكانت جلسته جميلة جدا. وكنت أحب أن أزور عبد القادر المازني - وكان له ابن من الإخوان - لكنني لم أتردد كثيرا على محمود شاكر والعقاد.

ومن الواضح أن الإمام البنا كان بهذا التوجيه يجنح إلى تثقيفنا، ويحاول أن يجعلنا أصحاب ثقافة متميزة. وكان - رحمه الله - يسعد جدا إذا أحضرت له مقالا من عبد القادر المازني للجريدة عندنا، وكنت ألح إلحاحا شديدا على عبد القادر المازني حتى يستجيب لنا، ويكتب للجريدة مقالا. فكان هناك انفتاح على كل الناس دون خوف؛ لأننا كنا معتزين بما نحمله، ونشعر أننا شيء آخر نختلف عما هو موجود على الساحة الاجتماعية.

اختارني البنا للنظام الخاص

كانت مصر دولة محتلة من قبل المحتل البريطاني بعد ثورة عرابي، وكانت كل خيرات مصر تُنهب من قبل هذا المحتل، فارتأى الأستاذ البنا أن يكون نظاما يقوم على التصدي لهذا المحتل عن طريق المقاومة، فكان النظام الخاص.

"النظام الخاص" بجماعة الإخوان المسلمين هو نظام عسكري أسسته الجماعة في عام 1940م؛ وهدفه إعداد نخبة منتقاة من الإخوان المسلمين للقيام بمهمات خاصة، والتدريب على العمليات العسكرية ضد العدو الخارجي، ومحو الأمية العسكرية للشعب المصري في ذلك الوقت، حيث كان كل فرد يمكنه دفع عشرين جنيها ليستطيع التخلص من الخدمة العسكرية.

والنظام الخاص، بطبيعة أهدافه، كان تنظيما سريا مدربا على استخدام الأسلحة المختلفة، وقد أنشئ من أجل:

1- محاربة الإنجليز في مصر.

2- محاربة الصهيونية في فلسطين.

لذلك كان لا بد من السرية حتى لا ينكشف أمره، ويصبح عرضة للقضاء عليه؛ لأن الإنجليز لن يسمحوا بقيام أي تنظيم مدرب مسلح للقضاء عليهم.

أثناء وجودي في لقاء الخميس، اختارني الأستاذ البنا للانضمام لهذا النظام. والنظام الخاص كانت له أهداف سامية أُنشئ من أجلها، ولم يكن من أهدافه قتل الأبرياء أو المخالفين للإخوان.

أدرك الأستاذ البنا أن المفاوضات مع المحتل لا تؤتي ثمارها، وأن الحل الوحيد هو المقاومة، فبحث مع عدد من إخوانه في إنشاء تنظيم عسكري يعمل على التصدي للمحتل، سواء الإنجليزي بالقطر المصري أو الصهيوني بفلسطين، وتم تكليف محمود عبد الحليم بهيكلة هذا النظام، وكان يعاونه (كما عرفنا) الأستاذ صالح عشماوي، والدكتور محمود عساف، والأستاذ عبد العزيز جلال، والشيخ أحمد شريت، وقد عمدوا إلى وضع شروط صعبة لاختيار الأفراد المنتمين لهذا النظام (وكان معظمهم من الشباب).

تم اختيار خمسة لقيادة النظام، حتى لا ينفرد أحدهم بالقرار دون مشورة، فكان: عبد الرحمن السندي، ومصطفى مشهور، ومحمود الصباغ، وأحمد زكي حسن، وأحمد حسنين، كما كان هناك نظام خاص في الجيش يرأسه الصاغ محمود لبيب، ويعاونه عبد المنعم عبد الرؤوف، كما كان هناك نظام خاص في قسم الوحدات يرأسه الصاغ صلاح شادي.

لم يكن النظام الخاص التشكيل العسكري الوحيد الموجود على الساحة آنذاك، بل سبقه تشكيلات عسكرية كثيرة تابعة للأحزاب والهيئات. فكان هناك عناصر القمصان الخضراء، وعناصر القمصان الزرقاء، كما كانت هناك جماعة حسين توفيق التي اغتالت الوزير القبطي الوفدي أمين عثمان، وكان في هذه المجموعة الرئيس السابق أنور السادات.

ماذا أراد البنا منه

ولقد كنا نستشعر أن الله فرض الجهاد على كل مسلم فريضة لازمة جازمة لا مناص منها ولا مفر، ورغّب فيها أعظم الترغيب، وأجزل ثواب المجاهدين والشهداء، فلم يلحقهم في مثوبتهم إلا من عمل بمثل عملهم، ومن اقتدى بهم في جهادهم، ومنحهم من الامتيازات الروحية والعلمية في الدنيا والآخرة ما لم يمنحها سواهم، وجعل دماءهم الطاهرة الزكية صك النصر في الدنيا، وعنوان الفوز والفلاح في العقبى.

وكنا نستشعر قول الله تعالى "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدا عَلَيْهِ حَقّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" (التوبة: 111).

وقد كتب الأستاذ البنا في ختام رسالة الجهاد: "أيها الإخوان: إن الأمة التي تحسن صناعة الموت، وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة يهب لها الله الحياة العزيزة في الدنيا، والنعيم الخالد في الآخرة، وما الوهم الذي أذلنا إلا حب الدنيا، وكراهية الموت. فأعدوا أنفسكم لعمل عظيم، واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة. واعلموا أن الموت لا بد منه، وأنه لا يكون إلا مرة واحدة، فإن جعلتموها في سبيل الله كان ذلك ربح الدنيا، وثواب الآخرة، وما يصيبكم إلا ما كتب الله لكم، وتدبروا جيدا قول الله تبارك وتعالى (ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَة نُّعَاسا يَغْشَى طَائِفَة مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران: 154]، فاعملوا للموتة الكريمة تظفروا بالسعادة الكاملة. رزقنا الله وإياكم كرامة الاستشهاد في سبيله".

كنا نحضر الكتائب التربوية يوم الخميس، والكتيبة عند الإخوان اجتماع مجموعة مختارة من الإخوان يبلغون الأربعين عددا فى دار من دور الإخوان (شعبة أو المركز العام أو بيت مناسب من بيوت الإخوان)، وكان يحضره الأستاذ المرشد العام.

ثم كان يبدأ حديثه بذكر إخائنا، وهذا الحب الذي بيننا في الله، وما يضفيه علينا من متعة وإيناس في الدنيا، وثواب وعطاء في الآخرة. وبعد ذلك يستفيض في معان روحية دفاقة، ويغوص في كتاب الله تبارك وتعالى، يستخرج منه المعاني كما يستخرج الغواص اللؤلؤ من أعماق البحار. وكان يرافقني من السكاكيني، أحمد عادل كمال، وحنفي الأبيض، وغيرهما.

 

اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (2)

اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (3)

التعليقات (0)