كتاب عربي 21

المؤسسة الدينية الرسمية

1300x600
نشرت "المصري اليوم"، بتاريخ الاثنين 10 تشرين الأول/ أكتوبر، خبرا عن قيام مديرية الأوقاف بالإسكندرية بتنظيم قافلة دعوية تحت عنوان "دعاوى التشكيك والإحباط وكيف يرُدّ عليها الإسلام" وذكر وكيل الوزارة بالمحافظة أن المديرية تولي هذه القافلة أهمية خاصة، نظراً لاحتياج المجتمع بشدة للتصدي لمن سماهم أصحاب النفوس الضعيفة والأفكار المتشددة من دعاة التخريب والتفرقة من هواة الإثارة الإعلامية والظهور على قنوات الفتنة ومواقع التواصل الاجتماعي، كما أنها تأتي لمخاطبة الشباب بأهمية فهم صحيح الدين الحنيف، دين الوسطية والتقارب مع الآخر، وملتقى جميع الحضارات، ودين السلام والسماحة والعمل والاجتهاد.

وأشار إلى أن المديرية تواصل إطلاق قوافل دعوية مكثفة بجميع قرى ونجوع المحافظة، خاصة العامرية والعجمي وأبيس، نزولا على رغبة الأهالي والشباب بها، موضحا أنه تم إطلاق نحو 500 قافلة دعوية خلال الفترة الماضية، بمعدل 20 قافلة أسبوعيا، لتوضيح سماحة الإسلام ووسطيته واعتداله، وقوافل لترسيخ وتنمية روح الانتماء.

انتهى نص الخبر ليُفتح باب التساؤلات حول الدور الذي تقوم به المؤسسة الدينية الرسمية، وأيضا ما يُفترض أن تقوم به ومنعتها تبعيتها للدولة منه.

ما يبدو أن الدولة لا تزال مصرة على طرفتها السمجة عندما تحدثت وزارة داخليتها عن ضبط خلية لنشر مناخ التشاؤم وأعلنت عنها يوم السبت 24 أيلول/ سبتمبر الماضي، فتلقفت وزارة الأوقاف الخيط لتنظّم قوافل دعوية تعلمنا كيف يرد الإسلام على تلك الدعاوى، وهو دور يمثل أحد امتدادات نكبة تأميم المجال الاجتماعي الذي استعر عقب انقلاب يوليو 1952، فأصبحت المؤسسات الدينية الرسمية تسير في ركب الدولة تماما، وتستنسخ روحها في الإدارة حتى لو كانت "الدولة هزلية"، مما أضر بالعملية الدعوية التي تمثلها الجهات الرسمية.

هناك تساؤلات مشروعة موجهة لمديرية الأوقاف بالإسكندرية والمؤسسة الدينية الرسمية بشكل عام منها: كيف يرد الإسلام على الوعود الكاذبة التي تطلقها السلطة لتخدع البسطاء؟ وكيف يتعامل الدين مع السلطات المستبدة التي تقتل وتخطف وتعذب وتنتهك كل الحرمات بدءا من حرمة البيوت وانتهاء بحرمة الأجساد والأرواح؟ وهل يقف الدين أمام احتكار جهة من الدولة لسلعة أساسية كلبن الأطفال، أو سلعة حاجية أو حتى استهلاكية، وما هو حكم الدين الإسلامي في الاحتكار عموما؟ وما هو حكم دعم سلطة بلد الأزهر لسلطة أخرى تقتل شعبها بالبراميل المتفجرة والغازات السامة؟ وما هو وضع العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم إذا أخفق في إدارة شؤون البلاد؟ وغير ذلك من أسئلة تلح على وجدان أي مصري ينشغل بالشأن العام ويريد أن يرى "حَمَلَة الشريعة" ردءا له ويآزرونه في أقضية عصره واحتياجاته الأساسية.

إن أوجب واجبات الدعاة أن يقوموا على صيانة الدين من عبث الساسة خاصة نظم الحكم، تلك النظم المستبدة التي لا ترعى مجتمعاتها ولا تلتفت إلى الدين إلا عند حاجتهم إليه لتوظيفه، وصورة الصيانة تبدأ من الفصل الوظيفي والتمييز بين العملين الحزبي والدعوي بحيث لا يتم توظيف الدين في المنافسات السياسية وكذلك الخلافات، والضرر الحاصل من ذلك الامتزاج غير المحمود منْكشفٌ لكل الأطراف الدعوية، إلا أن منها من استجاب وانفعل لصيانة الدين، ومنها من لا يقدر على الفصل لتحصيل منفعة حزبية بالتدثر بالدين، وآخرين لا تسمح لهم الدولة بالانفكاك عنها لحاجتها إليهم.

دعوى فصل العمل الحزبي عن العمل الدعوي محاطة بتشويه كبير في مصر، إذ تتحدث عنه الحركات السياسية الإسلامية بأنه فصل للدين عن السياسة، وهو قصور يبدو أنه مقصود في فهم الصورة، فلا يوجد مُنْتمٍ للامتداد الثقافي والحضاري للمنطقة يقول برغبته في فصل الدين بما يمثله من قيم تضبط سلوك البشر إما بوازع الضمير أو بالترهيب من العقوبة الأخروية، لكن مقصود تلك الدعوى مجرد الفصل الوظيفي فلا تنخرط الحركات الدعوية سواء كانت رسمية أو شعبية في عمل سياسي تنافسي أو تنخرط في الخلافات السياسية، بل تبقى وعاء للمجتمع يحتمي بها في مواجهة استبداد السلطة أو انتهازية السَّاسة، لكن انخراطها في تلك الأمور سبّب تضررا كبيرا في علاقة المجتمع مع الدعاة والآن تضررت الحالة الدينية في مصر بفعل ما حدث من المؤسسات الدينية الشعبية والرسمية وربطهم لكل سلوكهم باعتباره هو الدين، فحدث الاستقطاب السياسي بزعم نصرة الدين، وحدث الانقلاب العسكري بزعم أنه حاجة دينية كذلك، وأصبح الفعل ونقيضه كل منهما يصدر عن تفسير ديني.

الإشكال هنا ليس بسبب تعدد تفسير النص الديني كما يوهم البعض، بل يحدث بسبب تعدد الأهواء ونزعات المصلحة الدنيوية المفتقرة لدعم المقدّس، وهو الأمر الذي تقوم به تلك المؤسسات على أكمل وجه من وجوه الفساد في التأويل وتغيّي الغايات الخاصة والنفعية، أما تعدد الأفهام في تأويل النص لا يتعلق بالأهواء، بل هو منضبط بأوجه اللغة المحتملة للمعاني المتعددة للفظ الواحد، ثم هو لا يخرج عن قواعد منضبطة لفهم النص واستنباط الحكم منه، ولا يسع المقام الاستطراد فيه.

إن ذكر مصر مرتبط بشكل أساسي بكونها بلد الأزهر، وهو قِبلة العِلْم السُّنِّي على تعاقب الدهور، والأزهر احتفظ باستقلاله في أحلك الأزمات كالغزو الأجنبي، لكن قواه بدأت تخور عقب انقلاب 1952 إلى أن وصل لحالته الراهنة، لكن استرداده لعافيته غير بعيد، خاصة إذا تتبعنا دوره عقب ثورة يناير وما أصدره من وثائق ترسم مستقبل الوطن بتعدديته السياسية والدينية، ويدعم ثورات الربيع العربي وشعوبه، والحفاظ على الأزهر من التشويه أحد مقومات الحفاظ على مناعة المجتمع من الانحراف الفكري والسلوكي من جهة، وأحد عوامل الوقوف أمام بطش السلطة من جهة أخرى، واستعادته للأوقاف لينفق على نفسه بعيدا عن سيف المعز وذهبه بداية الطريق لا آخره.