كتاب عربي 21

ممن يخاف السيسي؟

1300x600
لم يكن حديث "الفكة"، التي يريد أن يجمعها من المواطنين، ليبنى بها الاقتصاد المصري، هي أهم ما في خطاب عبد الفتاح السيسي، وإن مثلت الفاصل الفكاهي في هذا الخطاب.

اقتراح جمع "الفكة" أنتجته عقلية بائسة، ليس بؤسها بجديد أو غريب علينا، إنها ذات العقلية التي أنتجت بؤسا غير مسبوق، عندما اقترحت حلا لأزمة البطالة بعربات الخضار، وحل أزمة الوقود باللمبات الموفرة، وحل أزمة رغيف الخبز، بجعله، وهو لم يعد يُرى بالعين المجردة، قابلا للقسمة على أربعة أشخاص!

هي ذاتها العقلية، التي حصلت على أكثر من ستين مليار جنيه من الخارج، فرفعت رواتب القضاة، وضباط الجيش، ورجال الشرطة، ثم استدارت إلى المواطنين البسطاء طالبة منهم أن يصبحوا على مصر ولو بجنيه، وأن يمنحوها ولو ثمن مكالمة هاتفية!

الأهم في خطاب السيسي هو إعلانه أن هناك مخططا للجيش للانتشار في ربوع مصر في ظرف ست ساعات، وإذا كان حديث "الفكه" ببؤسه، شغل الناس عن هذا التهديد، فقد آن لنا أن ننتقل من الهزل إلى الجد، وإذا كان ثلاثة، وكما ورد في الأثر، جدهن جد وهزلهن جد، فإن كلام السيسي هزله هزل، وجده هزل، لهذا فالرأي العام معه عذره، إن اهتم في كلامه دائما بالأكثر فكاهة، والمادة الخام للسخرية.

لقد بدا إعلان الخطة الموضوعة للجيش بالتمدد في مصر في ست ساعات، إقحاما للأمر دون مناسبة، لكن بتقليب الموضوع على الوجوه كافة، نكتشف أن المناسبة نفسها جرى افتعالها من أجل رسالة التهديد هذه.

فلا شيء في محافظة الإسكندرية، وفي منطقة "غيط العنب" ، يستدعي أن يشد من أجله من ينتحل صفة رئيس الجمهورية الرحال، فمشروع بناء مجموعة من البنايات في المنطقة لا ينسب إليه، فقد بدأ في عهد مبارك، وإن كان ثمة إنجاز في الأمر فإنه يحسب للمخلوع، وللمحافظ الذي بدأ في عهده المشروع وهو عبد السلام محجوب، بالإضافة إلى النائب الراحل أبو العز الحريري، الذي لم يدع ابنه النائب الحالي عن المحافظة للقاء السيسي، ربما لدواعي أمنية فالزيارة لم يعلن عنها من قبل، وتوجيه الدعوة لنائب شاب من القلة في برلمان الانقلاب التي تحسب نفسها على ثورة يناير، يمكن أن يتسرب من خلاله موعد الزيارة السرية، والزائر يسيطر عليه الهاجس الأمني، وقد قال قبل ترشحه للرئاسة أنه تعرض لمحاولتين اغتيال، ولم يذكر تفاصيل المحاولتين!

لا نعرف إن كان نواب الإسكندرية الآخرين قد دعوا لهذا اللقاء، وأن الاستبعاد كان من نصيب "هيثم الحريري" وحده، أم إن الاستبعاد طال الجميع، وهذا ليس هو الموضوع؛ فما يلفت الانتباه هنا، أن هذه الزيارة كانت بهدف تسليم عشرة أشخاص وحداتهم في هذه البنايات، ولا نعرف إن كان لم يتم الانتهاء من كامل الوحدات، أم إن الاكتفاء بالأشخاص العشرة هو من باب الاحتياطات الأمنية المبالغ فيها من قبل السيسي، لدرجة أنه الرئيس المصري الوحيد الذي لا يعرف أحد أين يقيم؟ والوحيد الذي يقدم حراسه في كل مكان، بما في ذلك دور العبادة لتفصل بينه وبين شيخ الأزهر مثلا، وبين رئيس الحكومة وقيادات الدولة، الذي لو أصيب أحدهم بالجنون المفاجئ وفكر في الاعتداء عليه، فلن تمكنه الحالة الصحية، أو الآلة التي يمكن أن تستخدم في القتل والإيذاء.

هذه الوحدات السكنية العشر كان يكفي لأن يقوم رئيس حي "غيط العنب" بتسليمها لأصحاب القسمة والنصيب، أما إذا كان التسليم لسكان كامل البنايات فقد كان يكفي حضور نائب المحافظ، أو المحافظ على أكثر تقدير، وحضور السيسي بشحمه ولحمه، بدا للمتابع المدقق، أنه من أجل إرسال رسالته الخاصة، بخطة الجيش للانتشار السريع، وإعلانه أن هذا في موجهة أي مخاطر تهدد الدولة.

لا يحتاج الأمر إلى الوقوف على التعريف الإجرائي، والاصطلاحي، لمفهوم الدولة لنصل إلى ما يستهدفه عبد الفتاح السيسي، فقد سبق له أن استنكر فكرة إسقاط النظام، وهو شعار ثورة يناير، وأعلن أن النظام هو الدولة، ومن يريد بالتالي أن يسقط النظام هو يريد أن يسقط الدولة، ثم اختزل الدولة في شخصه.

وفي خطاب التهديد بانتشار الجيش في ست ساعات، قال ما يفهم منه أنه لن يترك موقعه، باعتبار أن تركه معناه انهيار الدولة، ومن هنا يفهم أن هذا الانتشار للجيش، أو ما أسماه هو "الفرد"، من فرد يفرد فهو مفرود، ليس له إلا معنى واحد هو أن هذا الانتشار بهدف بقائه في السلطة، لاحظ أنه قال قبل ذلك أن وجوده في موقعه مرهون بطلب المصريين ذلك، ولن يبقى لحظة واحدة في موقعه إذا أراد المصريون له أن يغادر.

السيسي له سوابق في عمليات التهديد المبطنة، التي لم تبدأ بخطابه وهو يهتف في المجهول، المعلوم لديه: "إنتو مين؟"، فذكر الناس بتساؤل القذافي الذي طرحه في وجه الثوار: "من أنتم؟!"، في هذا اليوم كان السيسي يوجه رسالة لقوى غيبية على الأقل بالنسبة لنا. ولم ينته مسلسل توجيه الرسائل بما قاله مؤخرا أن "شرف المقاتل ألا يتآمر ضد الرئيس ولا يخطط لعزله". وإذا كان الرأي العام ظن أنه أصابه الخفيف لدرجة أن يذكر سيرته باستهجان، وهو الذي تآمر على الرئيس محمد مرسي وخطط لعزله، فإن المدقق في الرسالة، يعلم أنه كان يقصد آخرين يتآمرون عليه، لا تعلمونهم الله يعلمهم.

إنها رسائل ترسل في خطابات كوميدية، لا ينتبه الناس فيها إلا على الأعلى فكاهة، فينشغلوا به، لتبقى هذه الرسائل موجهة لأصحابها فقط، وقد عرفت في مشواري الصحفي الطويل، كتابا يكتبون مقالات عبارة عن رسائل لشخص واحد، تقربا، أو ابتزازا، أو تهديدا، وكان الذهن صافيا في السابق فيشغلني التوصل إلى الشخص المعني بالمقال.

يقولون إنه يوجه هذه الرسائل للإخوان. والسؤال: وأين هم الإخوان، وقد كانت من أهم إنجازات القوم بمناسبة الذكرى الثالثة لفض رابعة أن الفصيل الحاكم في الجماعة تمكن بحول الله من استرداد موقع الجماعة الإلكتروني "إخوان أون لاين" وهتف هاتفهم: "الباسورد لا يزال في جيبي"، على طريقة فيلم حسام الدين مصطفى "الرصاصة لا تزال في جيبي". وهذه الرسائل السيساوية لم توجه والمظاهرات العارمة تعم شوارع مصر ومن أسوان إلى الإسكندرية.

وفضلا عن هذا، فإن الهاجس الأمني لدى السيسي لا يجعل المرء يمكنه أن يصدق رسالته التي تفيد أنه مسيطر، لاحظ أنه اصطحب حراسه إلى داخل الشقة التي تناول فيها الإفطار مع الأسرة البسيطة "إياها"، وفي حضور طاغ للحرس، وهذا المشهد القديم للرئيس وهو يجالس العامة فعله عبد الناصر، والسادات، ومبارك، وفي صورهم وعلى "مدد الشوق" ليس هناك وجود للحراس الذين ينسف وجودهم المستهدف من الصورة، وهو بساطة سيادة الرئيس.

عندما نتوصل إلى المعنيين برسالة السيسي التحذيرية، فسيكون هذا هو الخبر بلغة أهل الصحافة.