قضايا وآراء

الغَربُ.. والحُروبُ الكاذِبةُ

1300x600
أعادَ تقريرُ رئيسِ لجنة التحقيق البريطانية حول حرب العراق "جون شيلكوت john Chilcot النقاشَ حول أسس التحالف من أجل غزوِ العراق وتدمير  دولته وكامل ومؤسساته عام 2003. وقبل هذا التقرير بحوالي سنة (2015) كان قد صَدر تقريرُ Feinstein في الولايات المتحدة الأمريكية، كشفَ حجمَ الجرائم المرتكبة في كل من العراق وأفغانستان، وأكد أكذوبةَ "الأسلحة الكيماوية وأسلحة الدمار الشامل" التي تمَّ الارتكازُ عليها حجّةً  لحشد التحالف الدولي والإقدامِ على ما تمًّ الإقدامُ عليه.

من المعروف أن حروبا كثيرة عرفتها البشريةُ خلال أطوار عديدة من تاريخها، وقد أثبتت الوقائع أنها لم تكن مؤسسةً على اعتبارات شرعية ولا مُقنعة، وأن كثيراً ما كانت وراءها حساباتُ المصلحة الضيقة والخاصة أكثر من غيرها من الأسباب. أما الكُلفة الناجمة عنها، والمترتبة عن دمارها، فتحملتها المجتمعات بشريا وماديا. لنتذكر، على سبيل المثال، الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما حصدتا من أرواح، وخلفتا من دمار في العُمران والاقتصاد و حركية النمو. ولنتذكر أيضا كيف أمعنت "حروب القرن العشرين الظالِمة" في اختلاق مُسَوغات تفكيك دول والتشجيع على ميلاد أخرى بغير حق، نُشير فقط إلى تلك التي أقدمت عليها فرنسا وبريطانيا بداية القرن العشرين (1916) لتبرير دخولها إلى المشرق العربي وتفكيك "سوريا الطبيعية" أو "الهلال الخصيب"، وزرع "إسرائيل" ، قبل الاعتراف بها دوليا عام 1947.

لاشك أن القارئ اللّبيب يُدرك جيداً عدم حصول  تغيّر جوهري في عُمق التفكير الغربي حُيال علاقته بباقي العالم و قضاياه الإستراتيجية، وأن لازِمةَ "الكَيل بمكيالين" ظلت مُستحكمةً في سلوك نخبه القائدة، وموجهةً لسياسات دوله، على الرغم من التقدم الكبير الذي شهدته المدنية في العصر الحديث. لذلك، لا نرى فرقاً لافتاً بين ما أسَّست عليه أوروبا حروبَها في النصف الأخير من القرن التاسع عشر والأربعين سنة الأولى من القرن العشرين، وما يستند عليه الغرب اليوم في دعواته المتكررة إلى بناء التحالفات وشنّ الحروب على أكثر من منطقة في العالم. والحقيقة أن أصوات مهمة وكثيرة من داخل الغرب نفسه ما انفكت تنتقد وتسعى إلى نزع طابع التمويه والتضليل الذي تعتمده القوى الغربية الكبرى في العالم من أجل تقديم حروبها بوصفها "حروبا عادِلة"، تروم، في المقام الأول،"خدمةَ البشرية كافة، ورفع مظاهر الشرِّ عنها".

كشف التقريران المشار إليهما أعلاه عدم صحة المبررات والدواعي التي تمّ الاستناد عليها في غزو العراق ربيع 2003، وتنفيذ مخطط هدم دولته، وتفكيك باقي مؤسساتها، والعمل على إعادة صياغة واقع العراق وفق رؤية جديدة، أكدت الوقائع في الميدان خطورتها ليس على العراق وحده، بل على المنطقة برمتها، وبدون شك على جدلية الأمن والاستقرار في العالم. فما أثبته تقرير " جون شيلكوت"، وأعلن عنه رسميا يوم الأربعاء 06 يوليو/ تموز 2016، أعطى الدليل على الدور الخطير لبريطانيا على عهد رئيس وزرائها الأسبق "توني برلير" (1997ـ 2007)، ومساهمتها المركزية، إلى جانب أمريكا، في تضليل الرأي العام الوطني والدولي، بحديثها قبل الحرب عن وجود أسلحة دمار شامل في العراق، وإقناعها بضرورة التحالف من أجل تدمير هذه الأسلحة، وتحطيم "البلد المنتج والحاضِن لها"، أي العراق ومؤسساته ونسيج مجتمعه.. وهذا ما حصل فعلا بداية الغزو ، وعلى امتداد مراحله اللاحقة.

كان لافِتا طبعا أن يستبق "توني بلير" صدور التقرير وانتشار معطياته وخُلاصاته، كما كان منتظراً أن يجد مخارج للتهم الموجهة إليه، بوصفه رئيساً لحكومة بريطانيا ومهندساً لسياستها الخارجية وقتئذ. ولكونه من طينة النخبة التي تُدرك تمام الإدراك أهمية الرأي العام في بلدها ، فقد جهر بذنبه وحزنه عن عدم صحة المعطيات التي بُني عليها قرار غزو العراق، دون أن يشك في كفاءة الأجهزة الاستخباراتية  لبلده، أو يقلل من اقتدار أدائها، كما لم يُقدم اعتذاراً صريحاً ومباشراً لمواطنيه، وللبلد الذي تمّ تدميره بالكامل، بل بالعكس اعتبر إسقاط "صدام حسين" ضرورة قصوى، وإعادة بناء العراق سياسياً ومؤسساتياً حاجة ملحة، ولم يُشكك في حسن نية الغربيين، أي بريطانيا وأمريكا، في "إنقاذ العراق"، ومن حولها من الدول، من مخاطر استمرار نظام البعث في بلاد الرافدين. 

ما الفائدة اليوم من تقرير أدان دور بريطانيا، وقبله بقليل تقارير أدانت، هي الأخرى، الولايات المتحدة الأمريكية، وأثبتت فصول التعذيب والتنكيل التي طالت  كل فئات المجتمع العراقي ظلماً وبغر وجه حق؟؟إنه سؤال جدير بالتفكير والتأمل. 

لاشك أن الفائدة المباشرة لهذه التقارير تكمن في قيمتها التاريخية كوثائق، تُعري "أسطورة الحرب العادلة"، وتكشف عن حجم المؤامرة التي تعرضت لها الدول المعنية بهذه الحروب. ثم إن فوائدها الأخرى تظهر في ما يمكن نعته بـ"الدروس المستفادة" من مثل هذه الحروب الكاذِبة، التي ما انفكت تتكرر في التاريخ، وتُلبسُ بألبسة تتلاءم مع سياقات الحروب وظروفها الملتبسة. وفي موضوع غزو العراق، يبدو أن درس يكمن في ما تعرضت له المنطقة العربية من تغييرات لا  تُعرف على وجه اليقين مآلاتها.. فالعراق أرجع قروناً إلى الوراء ولا أمل يُرجى من شفائه على الأقل في الزمنين القريب والمتوسط، و"الديمقراطية" التي تمّ التبشير بها، وُلدت ميتة، بسبب افتقادها الى التربة المغذية لها، والمحافِظة على استقرارها واستمرارها، والعراق يعيش اليوم في براثين الطائفية، والإبادة المتبادلة، وانسداد الآفاق.. والحقيقة أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل من أحشاء ما حصل في العراق، وُلد التطرف بكل أشكاله وتعبيراته، وامتد إلى دول الجوار، وسمعت أصداؤه في أكثر من عاصمة في العالم.. إننا في المحصلة نعيش تبعات تفكير غربي، يدعي العقلانية والحداثة في علاقته بذاته، لكن حين يرتبط الأمر بـ"الآخر"، يصبح كائنا متوحشاً لا قيم له ولا مرجعيات.