قضايا وآراء

ثلث قرن.. في الطريق إلى أبي!

1300x600
 عام جديد يبدأ من أعوام فقدك يا أبي يتمم ثلث قرنٍ على فراقنا!

عام جديد من أعوام مسيري إليك.. تلك الأعوام التي تمادتْ حتى لتكاد تُشكل عمري كُلَهُ، أخطو إلى عام جديد يذكرني بأن الرجل الذي أحمل اسمه، أسمّاني والدي، رحمه الله، باسمه الأول.. فصار الاسم مكرراً.. وصار اسم أبي الأشهر في تاريخ معاملاتي مع الناس، وصرتُ "تائه الاسم" يناديني الناس باسم أبي، وكان أحب وأجمل تيه عرفتُه في الحياة، بل إنني منذ دفن أبي، وإنني حينها لفي شرخ الصبا، تماماً منذ بُعيد وفاة أبي، فور رؤيتي القبر فاغراً فاه أيقنتُ لحظتها أن معنى أكبر مني يتشكل في تكويني قبل عقلي ووجداني، كان الناس يظنوني أبكي فقد أبي.. فيما كنتُ أبكي كلمات أسر إلي بها في حضور الطبيب.. في آخر مرة التقينا بها.. 

  انتحى بي جانباً واستأذنه لدقائق قائلاً في مودة ظاهرة:

ـ إنه أول غرسي، يا صديقي، ابني هذا لا أخفيك سراً.. لما تفتحتْ عيناه كنتُ أبالغ في معاقبته.. حتى في الحدود الضيقة.. لكني كنتُ أبالغ في معاقبته، قياساً على إخوته.. لكيلا يكون أكثر تعلقاً بي..

سيكون غداً.. وبعد غد أكثر أبنائي بكاءً.. فدعني أهون عليه قليلاً.. 

 تشاغل الرجل بأوراقه وقلمه، أدويته والمحاليل، وتمتم بما فهمتُ منه تمنيه طول العمر لأبي.. فيما كان الأخير يضمني قائلاً في رد فعل بدا تلقائياً:

ـ فات أوان هذا يا صديقي.. إنني لأشعر بنفسي جيداً.. 

 للمرة الأولى التي أقترب فيها من أبي فلا أشم رائحة لطالما ارتاحت إليها روحي قبل أنفي، رائحة عطر مختلطة بتسابيح وذكر لله تعالى ممزوجة بهدوء في النظرة.. وقلة في الكلام.. أجفلت.. فأبي يودعني، وسنو عمري القليلة تخبرني.. إنه حجز تذكرة بلا عودة، لماذا وكيف وكيف سأحيا من بعده؟ تلك أسئلة جعلتني على وشك الانفجار في البكاء، وكان رحمه الله قد ضبطني، قبلها، لثلاثة أو أربعة وقد أغلقتُ على نفسي باب غرفتي.. مصطحباً سجادة الصلاة وكتاب الله.. داعياً رب العزة أن يحفظ علي أبي، لما سمعتُ احاديث أمي وباقة من نساء وفتيات الأهل.. عن الموت.. موعده المفاجئ.. طرقه الباب بلطف لا يسمعه إلا الأصفياء.. دفن الأحباب في التراب.. أو يذهب أبي.. أكثر الناس الذين عرفتهم في حياتي إلى التراب فلا يعود؟!

 في اليوم التالي مباشرة لتلك الطقوس.. اقتحم أبي، رحمه الله، علي الغرفة وسألني في محبة مخلوطة بالتأنيب:

ـ قل لي لماذا ترفض منذ الأمس تناول الطعام معنا؟.. أو اللعب مع إخوتك.. الصلاة "على عيني" لكن لماذا تصلي وتبكي طوال الوقت!

 استحييتُ أن أقول له لأني أخاف عليك من زيارة "ملك الموت"، وعدم سماعك لطرقه على الباب، وانسحابك من حياتي في وقت بالغ التبكير منها، وإنني لأرى العيد يجيء كل يوم وثانية أراك سعيداً فيها، أو أشعر بك كذلك حتى لو لم تكن أمامي، وإنك أنت عالمي كله.. راحة عيني لما أرى "النسخة الأصلية" من وجودي، أرقب ملامحه، وأراجع صورتي في مرآة صفحة وجهه.. وجريان الزمان القريب والبعيد، خفتُ إن قلتُ له.. إنني أخاف عليك من الموت أن يجيئه الموت قريباً بالفعل.. 

 دنا مني وتهدجتْ أنفاسه واحتضنني وهو يقول:

ـ لقد عشتُ بعد أبي ووفاته، عشتُ أنا، وعاش أبي بعد أبيه، وستعيش بعدي.. فلا تقلقني أكثر عليك.. اعرف إنك ستعاني لفرط محبتك لي.. ولكني حينها سأستودعك الله.. وهو كافيك.. 

 فيما كان الطبيب لا يرد على كلمات أبي إليه "عني".. توجه إلي بالقول ليفسد اللحظة عليّ:

ـ والدك متعب.. هل من الممكن ألّا تطيل عليه؟!

ـ مالك يا "عم"؟!

 و"عم" تلك كانت الكلمة "الأصل" في تعاملاتي مع أبي في الصفاء، حتى بعد هبوب مآسي الزوابع والأعاصير.. لا الأمطار والرياح فقط، لحظة كان أبي يتخذ القرار الأصعب علي وعليه.. معاقبتي، وكان للعقاب طقوس خاصة جداً ليس مجالها هنا، وبعد انتهائه.. كان يجلس وحيداً.. يبكي في صمت يداري دمعه لأنه فعل.. سمعتُ ذات ليلة يقول لأمي وهو يقبلني.. فيما أتظاهر بالصمت:

ـ أتيتُ به إلى الحياة بعد أن تأخر بي العمر.. فظلمتُ نفسي بفرط محبتي له، وظلمته بمفارقتي المبكرة لعالمه، لكم أحبه ولا أتخيل حياته بعدي.. في أمان الله يا بُني!

 قال أبي بعدما حاول الابتسام من تأثير مفاجأة كلمة "عم" في غرفة نومنا، التي تحولت لمستشفى دائماً، وعيادة أحياناً لكبار الأطباء الذين كانوا يأتون لماماً ليتابعوا الحالة، لم يكن يحب أن يخطو أحد إلا الأسرة لغرفة نومه.. قال:

ـ مضى أوان الراحة يا بُني.. احفظ عني.. ركز، يا حبيبي، إن قلبي يحدثني بأني مفارقك بين لحظة وضحاها، وإنك ستبكي كثيراً لفقدي، لا تحزن يا بني.. ولا ترهق نفسك، ولا تصدق أولئك الذين خدعوك قائلين إننا لن نلتقي.. في ظل عرش ربي سنجتمع بلا فراق، ولكنه موعد غير معلوم الآن، ولكنه آتٍ وبسرعة فوق ما تتوقع. لكن "عدني"، يا حمادة، ألا تعصي الله تعالى، وإن فعلتْ ألا ترتكب "كبيرة"، وقد علمتُك الفارق بينهما، إنك ألا تعصاه يحفظك في الدنيا، ويجمعني بك على خير في الآخرة، ولا تتفرق بنا السبل.. لا قدر الله.. 

 يوم دفن أبي:

كان اليوم المشهود.. تم إحياء وصيته في نفسي ودفن جثمانه "الحقيقي" في القلب مني، بل إنني صرتُ لا أسير في الحياة في الأعم الأغلب إلا بهما.. 

 عرفتُ الله في أبي.. وعرفت الحق في الله وكان وسيطي إليه بعد الله أبي.. وكم من متعة مفاجئة في الدنيا حرمني منها.. وجود "برهان ربي" في صورة أبي كلمة وجسداً، مبناً ومعناً في داخلي، فأشفقتُ على الذي يعرض الأمر علي.. وحاولتُ الانسحاب في هدوء.. 

 إنني في الذكرى المتممة لأكثر من ثلث قرن بشهور لأحتفي بأبي على طريقتي التي ترضي الله ثم ترضيه.. وكم في العمر من مجزوء قرن.. لا ثلثه.. احتفي بوفاة أبي بالانحياز لأقرب الفريقين في مصر إلى الحق، غير منتظر منهم جزاء ولا شكوراً، بل متحملاً حار الكلمات واللفتات لمجرد نطق بكلمة حق حيال أخطاء واضحة.. وكوارث استدبروها بقصد أو بدون ولا يريدون تعلماً منهم.. 

 إنه ليس العهد معهم.. ولا لهم.. بل إنه العهد مع ربي.. عبر أبي!