كتاب عربي 21

العداء لتركيا وأزمة أوروبا

طه أوزهان
1300x600
1300x600

نعيش في عصر باتت الحقيقة فيه تصارع الموت، ولم يعد حتى من اليسير أن تدافع عن أي معلومة صحيحة أو عن أي قضية من القضايا الحقيقية. نسارع إلى النسيان، وسرعتنا في تلفيق الأمور أكبر. ولدينا الآن حرفة مبتدعة بأبعادها كافة، هدفها الوحيد هو إدارة الوقت ما بين الأمرين، واسمها: إدارة الانطباع. وأصبحت محاربة المعلومات المضللة أكبر قيمة من اكتساب المعرفة. لقد غدت أوروبا واحدة من النقاط الساخنة في هذه الأزمة العالمية؛ فبعد بريكسيت (التصويت البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي)، باتت أوروبا تناقش فيما بينها ما إذا كان قرار المغادرة ذاك يعني وداع منظومة القرن العشرين التي أنشأتها أوروبا بالاشتراك مع الولايات المتحدة الأمريكية. من السخرية أنك بالكاد تسمع أحدا يشير في خضم هذا الجدل إلى الاتحاد الأوروبي. لا يتذكر كثيرون لماذا تأسس الاتحاد الأوروبي في المقام الأول، ولا لماذا اصطفت الدول الأوروبية الواحدة تلو الأخرى بانتظار دورها في الانضمام إليه. ويبدو، بطريقة أو بأخرى، أن جميع الأطراف منهمكة في الإعداد لإجراءات انسحابها هي الأخرى، ولا تتباين فيما بينها إلا من حيث طبيعة هذا الانسحاب، فبعضها يريد خروجا تاما من الاتحاد الأوروبي، بينما غيرها يسعى إلى التحرر من مبادئ وأعراف الاتحاد الأوروبي التي طالما تكرست. 

إلا أن لا شيء في هذا الوضع المأساوي يعدل الفضيحة الدبلوماسية الأخيرة في هولندا. بل إنه لمن المؤلم أن يبدأ المرء في وصف ما ارتكبه الهولنديون من تجاوز قبيل إجراء الانتخابات العامة في الخامس عشر من مارس (آذار)؛ حيث حظرت الحكومة الهولندية نشاطين كان قد جرى الإعداد لهما في هولندا مسبقا، وكان من المقرر أن يشارك فيهما وزيران من وزراء الدولة التركية، التي من المفروض أنها بلد صديق للهولنديين وشريك معهم في حلف الناتو. بل تمادت الحكومة الهولندية إلى أكثر من ذلك فقامت بإبعاد وزيرة تركية منتهكة بذلك القواعد الدبلوماسية كافة، المعمول بها دوليا. كل هذا جرى في هولندا التي يعيش فيها مئات الآلاف من الأتراك، وما ذلك إلا للحيلولة دون مشاركة وزراء أتراك في اجتماعات تعقد في قاعات داخل المدن الهولندية، وطالما عقدت اجتماعات مماثلة لها من قبل دون أدنى مشاكل، من الواضح أن الليبرالية الأوروبية بلغت من البؤس البائن والعجز الفاضح ما يجعلها غير قادرة على مواجهة الموجات الحالية من العنصرية الفاشية، فلجأت يائسة إلى نوع من الشعبوية لا يقل سخافة في حده الأدنى عن شعبوية التيار اليميني المتطرف. ويبدو أنهم لم يفهموا أنه لن يتسنى لهم محاربة العنصرية وإلحاق الهزيمة بها من خلال تقليدها ومحاكاتها. ثمة قاعدة بسيطة وأساسية في السياسة، وقد تأكدت المرة تلو الأخرى، ألا وهي أن التزوير لا يؤدي إلا إلى تعزيز قوة ونصاعة الأصل. للأسف، لن يتمكن من إنجاز الكثير أولئك اليساريون الذين يتظاهرون بأنهم يمينيون، ولا الليبراليون الذين يقلدون الفاشستيين ولا الديمقراطيون الذين يلجأون إلى الشعبوية. ولا أدل على أن التقليد والمحاكاة يقودان إلى حالة من الفوضى العارمة من بريكسيت نفسه. 

إلا أن هذه الحادثة ليست الأولى من نوعها وليست السخافة الوحيدة التي ترتكبها هولندا. لا مفر من الاعتراف بأن هذا البلد لديه سقف مرتفع جدا للولوج في السخافات، ويذكر في هذا السياق أن حدثا لا يقل حماقة عما نحن بصدده الآن، كان قد وقع في العام الماضي. 

كما هو معلوم جيدا، كان الانفصاليون الروس في أوكرانيا قد أسقطوا طائرة ركاب متجهة من أمستردام إلى كوالا لمبور في الثامن عشر من يوليو (تموز) 2014، مستخدمين في ذلك صواريخ "باك" الروسية الصنع. قضى ثلاثمائة راكب نحبهم في الحادث، ورغم أن معظم الركاب كانوا من الهولنديين، إلا أن هولندا طالبت بإجراء استفتاء على معاهدة الوحدة ما بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا الخاصة بالعلاقات الأوثق بين الطرفين سياسيا واقتصاديا، التي وقعت في عام 2014. كان المرء يتوقع أن تكون هولندا آخر بلد على وجه المعمورة، يقرر إجراء استفتاء على مثل هذه القضية. بمعنى آخر، ما كنت لتتوقع أن يجري بلد استفتاء على معاهدة مع توفر العلم اليقيني، الذي لا يدانيه شك على الإطلاق، بأن هذه المعاهدة نفسها كانت قد رفضتها بشدة الجهة نفسها، التي تتحمل المسؤولية عن مقتل ما لا يقل عن مائتين من مواطني هذه الدولة. ومع ذلك، لم يكن ذلك التطور في هولندا حالة استثنائية، بل كان يمثل نموذجا صارخا لنوع وعمق الأزمة التي تشهدها القارة الأوروبية.  

حصل المعارضون لمعاهدة الاتحاد الأوروبي مع أوكرانيا على 1ر61 بالمائة من الأصوات في ذلك الاستفتاء، بينما حصل من صوتوا على الاستفتاء بنعم على 1ر38 بالمائة من الأصوات. وحينها أعلن غيرت وايلدرز، سيئ الصيت في تركيا وفي العالم الإسلامي، وزعيم الحزب السياسي اليميني المتطرف المعروف باسم حزب الحرية، أن النتيجة كانت بمنزلة "تصويت بعدم الثقة من قبل الشعب ضد النخبة في بروكسيل ولاهاي." ولعلنا نذكر هنا بأن مجلة ساخرة اسمها غينستيل كانت هي التي بدأت بجمع التواقيع، وهي التي أطلقت شرارة الجدل الذي أدى بالبلاد إلى التوجه نحو الاستفتاء. ولذا، فإننا بصدد مأساة حقيقية تتمثل في تصدر مجلة ساخرة لعملية رسم السياسة الخارجية، وفي مبادرة العنصريين إلى تحديد المعالم الجيوسياسية، وفي احتلال ليبراليين لا يحسنون سوى الخطابة الرنانة لمقاعد القيادة في السياسة، وقيام صعلوك يعود في بعض جذوره إلى إندونيسيا بتعريف ما تعنيه القومية الهولندية. عندما يجتمع كل أولئك معا، فإننا بشكل من الأشكال نجد أنفسنا في مواجهة انحسار مؤسف للمنطق، يتجاهل حقوق مئات الآلاف من الأتراك الذين يعيشون في هولندا، العضو الحليف في الناتو والشريك التجاري لتركيا. 

ما لم تتصد أوروبا لما تشهده أقطارها من تحول نحو اليمين المتطرف وما يجري فيها من تصاعد للشعبوية، فإن الأزمة التي تعيشها مرشحة حتما للانحدار نحو ما هو أسوأ. يرتكب الأوروبيون خطأ جسيما إن ظنوا أن بإمكانهم التغلب على محور اليمين المتطرف، الآخذ في الاتساع من خلال تحويل تركيا إلى كبش فداء بدلا من مواجهة المشكلة والتعامل معها بشكل مباشر. وكان رئيس الوزراء البريطاني السابق دافيد كاميرون قد اختار سلوك المسار نفسه قبل بريكسيت بأيام قليلة حينما أعلن قائلا: "لربما تمكنوا (أي الأتراك) من التغلب على المشكلة والانضمام (إلى الاتحاد الأوروبي) قريبا من العام 3000 بحسب الاستطلاعات الأخيرة." ولقد قاده ذلك المسار إلى إنجلترا دون كاميرون وإلى اتحاد أوروبي دون بريطانيا. لا فكاك من حقيقة أن ملايين الأتراك باتوا اليوم جزءا طبيعيا من أوروبا. فقد عاشوا في أوروبا حتى الآن لما يزيد عن نصف قرن، وصار غالبية الأتراك الذين يعيشون في أوروبا اليوم هم أبناء الجيل الثالث من المهاجرين، وهم جزء لا يتجزأ من أوروبا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ولئن كانت التعددية الثقافية الليبرالية قد ولدت غيتوات (أحياء معزولة ومهمشة) مدعومة من قبل الدولة، فإن ذلك لا يغير من الحقيقة شيئا. ومع ذلك، فقد لا تعني هذه الحقائق شيئا بالنسبة للموجة السياسية التي يمتطيها العنصريون من منتسبي اليمين المتطرف. 

ما من شك في أن ارتفاع مستويات العنصرية ضد الآخر وانتشار الأزمات الجيوسياسية في أوروبا يقلق العالم، وحق له أن يقلق بشأنها أكثر من قلقه تجاه أي أزمات في أي مكان آخر. فكلنا يتذكر جيدا كيف أدت العنصرية ضد الآخرين في أوروبا في الماضي إلى إبادة عرقية مريعة، وكيف انتهت الأزمات الجيوسياسية الماضية في أوروبا إلى نشوب أكثر الحروب دموية في تاريخ البشرية. إذا ما استسلمت أوروبا إلى موجات اليمين المتطرف في انتخابات 2017 فسوف تتعمق أزماتها. كما أن محاولة شغل صهوة الانتخابات بالعداوة لتركيا لن يؤدي فقط إلى تأزيم العلاقات مع تركيا، بل سينجم عنه أيضا تسريع التحول نحو اليمين المتطرف. من شأن تزايد عدد الأقطار الأوروبية التي تحكمها أحزاب عنصرية أو تزايد مشاركة مثل هذه الأحزاب في ائتلافات حكومية، أن يؤدي إلى ما يعرف بفعل الدومينو. قد يسبب ذلك أخطارا جيوسياسية جسيمة، ليس فقط في داخل أوروبا، وإنما أيضا في منطقة البلقان ومنطقة القوقاز. ما لا يزل حتى الآن نقاشا داخل الصالونات حول عواقب اللجوء إلى الشعبوية، قد يتحول سريعا جدا إلي سبب رئيسي في تأجيج الأزمات الجيوسياسية. 

لقد أدى المدافعون بشراسة عن بريكسيت دورا مهما في الاستفتاء الهولندي عام 2016، الذي لم يحظ بكثير من الاهتمام من أي جهة من الجهات. مازلنا نحاول تلمس ما هو نوع العواقب الكارثية (التسونامي) التي ستنجم عن القرارات الساذجة التي قد تتخذها الحكومة الهولندية التي وترت العلاقات بين هولندا وتركيا. ثمة شيء واحد مؤكد، ألا وهو، كما عبر عنه سبينوزا أمستردام: "إذا ما تصادمت الحقائق مع نظرية ما، فإما أن تتغير النظرية أو تتغير الحقائق". لم يعد ثمة شك في أن المقاربات والممارسات التي سادت خلال الثلاثين أو الأربعين عاما الماضية بناء على نظرية أوروبا الليبرالية، باتت تتصادم مع التطورات الجارية على الأرض في أوروبا. فإما أن يتم تحديد سلسة جديدة من القيم الأوروبية أو تتغير الوقائع على الأرض. وما من شك أيضا في أن قصة أولئك الذين يسعون إلى الحصول على مخرج زهيد الثمن من خلال لعب ورقة "العداوة ضد تركيا"، بدلا من الثبات على مواقفهم والصدع بالحق ضد من يعملون على تسميم الأجواء السياسية والاجتماعية في أوروبا لقصة محزنة بائسة. وغدا، إذا ما استمرت المخاطر الجيوسياسية في التفاقم وازدادت الأزمات في التعمق، سيكون ثمن التخلص من شريك مستقر مثل تركيا باهظا، بل ويفوق في تكلفته كل ما قد يخطر بالبال اليوم. وعندما يتصاعد التوتر السياسي في محاور شمال إفريقيا والبحر المتوسط والشرق الأوسط والقوقاز، ستبدو صورة أوروبا المصعدة للتوتر مع تركيا أبعد ما تكون عن الرشد والعقلانية. 
1
التعليقات (1)
عماد
الجمعة، 17-03-2017 06:26 م
" يرتكب الأوروبيون خطأ جسيما إن ظنوا أن بإمكانهم التغلب على محور اليمين المتطرف، الآخذ في الاتساع من خلال تحويل تركيا إلى كبش فداء بدلا من مواجهة المشكلة والتعامل معها بشكل مباشر." اوروبا بل الغرب برمته عاجز وجبان. ان الغرب حسب تقرير لثينك تنك أمريكي لسنه 2010 سيتحول تدريجيا ليصبح من البلدان المتوسطه بحلول سنة 2050. وما ظهور اليمين المتطرف الا نتيجة هذا التقهقر فعلى رأساء وسياسيو الغرب أن يوجهوا شعوبهم بالحقيقة و يطلعوهم على جدية المشكلة عوض التخفي وراء اليمين المتطرف تارة أو البحث عن كبش فداء تارة أخرى