قضايا وآراء

ما بعد تنصيب الرئيس الأمريكي المنتخب "دونالد ترامب"

محمد مالكي
1300x600
1300x600
شَكَّل ترشُّح الجمهوري دونالد ترامب" منذ بدايته حدثا سياسيا، جلب لصاحبه، وحزبه، وأنصاره، كثيرا من النقد وبالغَ الاعتراض، وخلال سريان التنافس الرئاسي، لم تتوقف أصواتُ الرأي العام عن التحذير من خطورة فوزه على السياسة الأمريكية تجاه العالم، والعلاقات الدولية عموما.

بل إن نتائج استطلاعات الرأي الصادرة عشية التنصيب الرئاسي وتسليم السلط، لم تمنح الرئيس المنتخب أكثر من 40% من التأييد، نظير 82% لسابقه "باراك أوباما"، و 62%  لـ"جورج بوش الابن".. وإذا أضفنا إلى كل هذا موجة المظاهرات التي عمّت التراب الأمريكي، وعواصم كثيرة في العالم، عقب حفل التنصيب، ندرك طبيعة التعقيدات، وربما الأزمات، التي ستعرفها العلاقات الدولية خلال حقبة حكم الرئيس "دونالد ترامب".

  يَخترقُ ردودَ فعل مجمل دول العالم شعورُ بالقلق والتوجس، لما سيُقدم عليه الرئيس المنتخب "دونالد ترامب"، وهل سيظل وفيا لشعارات حملته الانتخابية، والإجراءات التي عبّر عنها صراحة، ووعَد بتنفيذها حال حصوله على شرعية صناديق الاقتراع؟. فهل مثلا سيشرع في بناء الجدار العازِل بين بلده ودولة المكسيك، التي تربطه بها اتفاقية "النافطا"؟، وهل سيُنقل عاصمة بلده في إسرائيل إلى القدس؟ وهل يتخلى عن أهم إنجاز حققه "أوباما" قبله، أي الرعاية الصحة؟، وهل سيُعمق عزلة بلده، تنفيذا لشعار حملته الرئاسية "أمريكا أولا"؟، وهل سيولي ظهره لأوروبا العجوز في اتجاه جناحها الشرقي ) روسيا( ويتمدد طولا وعرضا نحو القوى الكبرى والصاعدة في آسيا؟.. إنها مصفوفة من الأسئلة المحيرة للنخب الأوروبية والمتابعين عموما لتطور المسار الرئاسي في الولايات المتحدة الأمريكية.

 ثمة مؤشران قد يشجعان على ترجيح صدقية القلق المنتشر في الحواضر الأوروبية ومناطق عدة من العالم. يتعلق أولهما بنوعية تركيبة حكومته، التي عمل منذ الإعلان عن نتائج الناخبين الكبار في شهر نوفمبر: تشرين الثاني من عام 2016، على الانتقاء بعناية أعضائها من داخل كبار المتنفذين الماليين ورجال الأعمال، وذوي المنتسبين إلى المراكز المميزة في المجتمع الأمريكي، وهي في كل الأحوال تشكيلة حكومية لم يشهد التاريخ الأمريكي نظيرا لها من حيث الطبيعة والنوع. في حين يخصُّ المؤشر الثاني، استمرار "ترامب" حتى الآن وفيا لوعوده، ومنفذا لشعاراته، وليس ثمة ما يسمح باستنتاج حصول تحوّل في سلوكه، أو نية في التحوّل في الزمن القريب.

 لاشك أن الخلفية التي قَدِم منها الرئيس الأمريكي المنتخب تضغط على نوع التخوفات المعبرة عنها في مختلف بقاع العالم. ف" ترامب" رجل أعمال، حالفَه النجاح، كما خذله الفشل، وهو بحكم مهنته سجينُ منطق إدارة الشركات، وليس مُشبعا بثقافة تدبير الشأن العام، فبالأحرى قيادة دولة عُظمى، بَنت مَجدها على هاجس "زعامة العالم"، والتحكم في توجيه دواليبه. لذلك، كان ردّ فعل ألمانيا قويا وواضحا، حين شددت مُستشارتُها إلى نزعة العزلة التي يدعو إليها "دونالد ترامب"، والجنوح نحو الانغلاق والانطواء على الذات.. كما نبهت أوروبا إلى ما يمكن أن يترتب عن هذه الرؤية الجديدة في السياسة الخارجية الأمريكية من آثار وخيمة، لاسيما إذا أضيفت إلى حدث خروج بريطانيا من منظومة الاتحاد الأوروبي تدريجيا خلال السنتين المقبلتين.

 سيكون صعبا علينا نحن في المنطقة العربية التكهّن بما يمكن أن يكون لولاية "ترامب" من مضاعفات على ملفاتنا المعقدة والمفتوحة منذ زمان.. فلأمريكا نصيب الأسد في ما حصل لبلداننا من تفكك ودمار، وتقهقر إلى الوراء، ولها مسؤولية كبرى في رفع الحظر عن انطلاق أوضاعنا نحو التسوية. لذلك، ليس من الصواب، كما يعتقد بعض أثريائنا العرب، أن سيد البيت الأبيض الجديد رجل أعمال، يمتلك منطق تدبير الشركات والأموال، وليس السياسة والمؤسسات، وهو بهذه الخلفية سيتكامل معنا نحن مُلاك الأموال ومَالكي الشركات والسندات، وسننجح تاليا في بناء شراكات مُثمرة على قاعدة هذا المنطق المشترك.. إنه بؤس التفكير في السياسة. لذلك، سيكون جديرا بالمنطقة العربية الاستعداد لمرحلة ما بعد تنصيب "ترامب"، والتهيؤ ربما لأصعب مما حصل، سواء في السياسة، أم في الاقتصاد والعلاقات الخارجية. 

 بيد أن مستقبل ما بعد تنصيب "دونالد ترامب" يمكن مقاربة آفاقه من زاوية أخرى، قد تساهم في تخفيف درجة التخوف من القادم، وتُرشِد التوقعات، وتبني مشاهد للتطور أقرب إلى الواقعية والممكن، منها إلى الإطلاق والمثالية. فـ"دونالد ترامب" اختارته شريحة مهمة من الشعب الأمريكي، عبر اقتراع ديمقراطي، شفاف ونزيه، وهو مرتبط وفق الدستور بمؤسسات يُقارن عمُرها القرنين والنصف) 1787 ـ2017(، ومرتهن بممارسات سياسية ثابتة ومتوطنة في الثقافة الجماعية للأمريكيين، والأهم خاضع للمصلحة القومية العليا للأمريكيين، وكلها متغيرات تضمن حماية جنوح الرئيس المنتخب إلى التطرف أو الاستثنائية.. صحيح يمكن أن ترتكب بعض "الحماقات" هنا وهناك، كما حدث لرؤساء سابقين ) نيكسون أو جورج بوش الابن على سبيل المثال(، لكن لن تتجاوز السقف المحتمل من قبل قيم العيش المشترك للمجتمع الأمريكي.. وسيبين لنا المستقبل القادم الممكن والمستحيل في سياسة "دونالد ترامب" الجديدة.
0
التعليقات (0)