قضايا وآراء

"المتحوّلون" أو سدنة المقاربة الثقافية للصراع

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
كثيرون منّا  تابع تلك السلسلة الشهيرة من أفلام الخيال العلمي بعنوان "المتحولون transformers". في تلك السلسلة كان المتحولون هم أولئك الآليون الأخيار والأشرار القادمون من كوكب سايبرترون ليواصلوا قتالهم على كوكب الأرض بحثا عن مصدر القوة اللامتناهية. ولكنّ المتحولين الذين نعنيهم في هذا المقال هم صنف من البشر لهم مظهرنا ويتكلمون لغتنا رغم أنهم لا يختلفون كثيرا عن "الروبوتات"-خاصة الشريرة منها- في تضخم القدرات الحسابية والمنطق البراغماتي. المتحولون الذين نتحدث عنهم هنا ليسوا فقط أولئك الذين يغيّرون ولاءاتهم السياسية تبعا لتغيّر أنظمة الحكم –وهو شأن من طلب السلامة من العوام والخواص على حد سواء- ، بل هم أيضا أولئك الذين تتغيّر قناعاتهم/أقنعتهم الفكرية وخلفياتهم الايديولوجية كلّما تغيّرت طبيعة "المتلقّي الجمعي الافتراضي" أو "المثالي" لكتاباتهم، لكن دون أن يعني ذلك حصول تحوّلات وجودية أو مراجعات فكرية حقيقية.

المتحوّلون لا يساهمون في تغيير "النظام المعرفي"(الابستيمي) السائد بتغيير خطاباتهم ومواقفهم ومواقعهم، وانما يخضعون لتحوّلات ذلك النظام المعرفي التي لم يُسهموا في انبثاقها ولكنهم لا يتورعون عن ادعاء تمثيلها. وهم لا يُشكّلون الرأي العام والوعي الجمعي ،بل يحسنون الانتباه الى انقلاباتهما فيجارون موازين القوى/الضعف و يخضعون لها في كتاباتهم. المتحوّلون، هم "إمّعةّ" المجال العام  في جميع قطاعاته : يُحسنون اذا أحسن الناس ويسيئون إذا أساؤوا.  ولا  نعني بالتحسين والتقبيح هنا المعنى الأخلاقي الديني فقط ،بل نعني خضوع تفكيرهم للمعايير المهيمنة للتحسين والتقيبح و لفاعلية الاجتماعية والحظوة السلطانية حتى إذا ما كانت تفتقد إلى أي تأسيس أخلاقي عقلاني، ولذلك فهم لا يستطيعون الإفلات من سطوة المعايير"البراغماتية" التي تتم صناعتها و إدارتها وشرعنتها  وتوزيعها عبر أجهزة السلطة ووسطائها.

المتحوّلون هم التعبير "الثقافي" الأصفى عمّا أسماه الباحث الإناسي المعروف الدكتور محمد حاج سالم بـ"الوعي الكروي" المعمّم، ذلك الوعي الذي تشظّى بعد 14 جانفي2011 ليصبح "الخطاب المعياري"  المسيطر على كلّ الخطابات السياسية والنقابية والثقافية "الصغرى" التي تتنازع على الانفراد بالسلطة المعيارية/المرجعية في مجالها. إننا أمام  وعي"كروي" انزاح عن مفرداته و إشكالياته مع المحافظة على طبيعته "الشعبوية " وعقليته " التجارية " الربحية. إنّ المتحوّلين هم عبيد "السُّلطانَينّ: سلطان النظام السياسي وسلطان الرأي العام ، يميلون معهما كيفما مالاَ ولا يساهمون في تشكيلهما أو معارضتهما إلاّ بمقدار لا يكاد يَبين.

لنحاول الآن أن نفكر بطريقة مختلفة في هؤلاء المتحوّلين ، وسنرى أنّ ما نحسبه تحولا ليس في الحقيقة إلا "حركة اعتماد" بالمعنى الذي وضعه المتكلم المعتزلي النَّظّام لهذه الحركة: حركة الجسم في مكانه. فالمتحوّلون هم أولئك الثابتون في سردياتهم الشخصية والايديولوجية الكبرى، وهم الراسخون في  منطقهم البراغماتي المعمّد سفسطائيا بأحدث المفاهيم النقدية ، إنهم أولئك الأوفياء لعبادة ذواتهم وزعاماتهم التي لا وظيفة لها في الحقيقة إلا شرعنة أوهام تلك الذوات المتضخمة وتغذيها. يحمل المتحولون منظومة أخلاقية واضحة شعارها مثلنا التونسي الشهير"الله ينصر من صْبح" (أي لينصر الله من غلب)، والغالب عند هؤلاء ليس بالضرورة من يحكم في الظاهر وليس له من الأمر شيء، بل الغالب هو من له السلطة الحقيقية ولو كان يتحرك من وراء ألف حجاب. 

وسنعطي مثالين نموذجيين عن هؤلاء المتحولين مع الحرص على توفّر شرطين لتكون المقاربة موفية  بشروط  الموضوعية :  الشرط الأول هو أن يكون النموذجان التمثيليان منتميين إلى ايديولوجيتين متناقضتين بل متنافيتين إلى حد إدارة الصراع بينهما على أساس وجودي لا سياسي، أما الشرط الثاني فهو أن نحصر كلامنا عنهما بعد الثورة،أي بعد 14 جانفي 2011.  

المثال الأول هو أغلب "المناضلين" التقدميين المنتمين إلى الجبهة الشعبية أو إلى"شقوق" نداء تونس الوريث الشرعي-لا الأوحد-للحزب الحاكم قبل الثورة. فإن نحن نظرنا إلى هؤلاء على أنهم متحوّلون -بالمعنى القدحي للكلمة- فإننا نخطئ في توصيفهم موضوعيا: إنهم لم يتحوّلوا يوما عن مبادئهم.

فأغلب من يسمون أنفسهم "ديمقراطيين"-وذلك في إطار التقابل مع الإسلاميين لا مع الاستبداد-  لم تكن الإيديولوجيا والنضال بالنسبة إليهم إلا أداة للتدرج الاجتماعي ولتحقيق مكبوتاتهم البرجوازية التي جعلتهم يتماهون-في لاوعيهم- مع عدوّهم الطبقي رغم ظاهر الخطاب الصدامي مع البرجوازية اللاوطنية. وبحكم غلبة المقاربة الثقافوية على هؤلاء وضمور المحدد الاقتصادي للصراع، فإنّ رفضهم للنظام لم يكن إلا رفضا لموقعهم فيه وليس لمنطقه أو لخياراته خاصة في المستوى الثقافي-التغريبي،  ولذلك استعمل الكثير من هؤلاء النضالَ مدرجا للارتقاء الاجتماعي ولتحسين شروط التفاوض مع السلطة والاستفادة من "ريعها"، وكان النموذج المثالي لهم جميعا هو ذاك "المناضل" الذي يستطيع أن يجمع –كما قال أحد الباحثين- بين "شرف المعارضة وامتيازات السلطة". 

ولذلك لا يجب أن نستغرب حين نجد أنّ الأغلب الأعم من القوى اليسارية والتقدمية قد اصطفت بعد انتخابات المجلس التأسيسي وراء نداء تونس (قاطرة الدولة العميقة وراعي مصالحها المادية والرمزية). فمادامت تلك القوى تفكر بمنطق الصراع الثقافي فإنها قد بقيت أسيرة خرافات النمط المجتمعي التونسي الذي لا يمكنه الاستغناء عن حاضنته الدستورية-التجمعية ، كما بقيت تلك النخب أسيرة منطقها المتهافت حول التناقض الرئيس (مع الرجعية الدينية) والتناقض الثانوي (مع الرجعية البرجوازية اللاوطنية)، ذلك المنطق الذي استفاد منه المخلوع"حامي الحمى والدين" ليحكم تونس بالحديد وب"النخب الحداثية" المدجّنة لأكثر من 23 سنة. 

أما المثال الثاني فهو أغلب المنتمين إلى حركة النهضة. فنحن هنا أيضا سنخطئ التوصيف إن اعتبرناهم من المتحولين بعد ثورة 17 جانفي أو من الذين "خانوا" الثورة. إن حركة النهضة هي بالأساس حركة "إصلاحية محافظة، ولذلك فإن مطالبتها بالثورية هو أمر لا يلزم إلا أصحابه. كما أن تناقضها مع نظام بن علي –ومن قبله  تناقضها مع نظام بورقيبة- لم يكن تناقضا في مستوى الخيارات الاقتصادية، بل كان تناقضا ثقافيا بالأساس. فالقدرة التي أبدتها حركة النهضة على "التطبيع" مع المنظومة الحاكمة –وهي نفسها قبل 14 جانفي 2011 وبعده- لا تعني تحوّلا في المنظور ومقوماته الفكرية بقدر ما تعكس تحوّلا في الموقع وإكراهاته الواقعية: كانت النهضة خارج النظام فأصبحت جزءا وظيفيا وبنيويا (أقليا) منه. وهو موقع يجعلها تقف على حقيقة كون صراعها مع النظام لم يكن صراعا "وجوديا" ولا "دينيا"  -كما يريد الكثير من العلمانيين والإسلاميين على حد سواء  أن يظهروه-، بل كان صراعا سياسيا يتعلق برفض النظام الحاكم في لحظتيه الدستورية والتجمعية توسيع قاعدته الزبونية-الجهوية من جهة أولى، وتعديل نمط شرعيته انطلاقا من الاعتراف بالمكوّن الإسلامي من جهة ثانية. 

لقد أظهرت "جبهة الإنقاذ" التي أعقبت انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011، وأظهرت من بعدها "التوافقات" التي أعقبت الانتخابات الأخيرة- تلك التوافقات التي لا يمكن أن توضع حتى في أفق إصلاحي فضلا عن الأفق الثوري- أنّ حركة النهضة الإسلامية ومعها الجبهة الشعبية ذات التوجه اليساري لم يكونا بعد الثورة إلا طابورا خامسا ينتظر دوره لخدمة المنظومة الحاكمة بتبريرات مختلفة،  كما أظهرت مسارات الثورة وارتكاساتها أنّ الإسلاميين واليساريين -على حد سواء- لا يمكنهم  بمنطقهم المسكون بمفردات الصراع الثقافي والإقصاء المتبادل  إلا أن يبقوا مجرد "ممتصي صدمات" لا دور لهم إلا إنقاذ النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة في كل مرة تتعرض فيها مصالحها المادية والرمزية لخطر وجودي حقيقي، وهو واقع لا نرى في المدى المنظور أية مؤشرات تدل على قرب انفكاكنا من نتائجه الكارثية على البلاد والعباد.
التعليقات (1)
ل. الحبوبي
الأحد، 08-01-2017 04:05 م
مقال يمثل قراءة جادة في الواقع التونسي وما اكتنفه من تحولات سياسية وتقافية فكرا و ممارسة.. وبقدر ما يلوح الكاتب مصيبا في كثير من الاراء والاستنتاجات فان بعض مواقفه لم تخل من بعض الغلو والشطط يستدعيان بعض التنسيب.. فالكاتب خلص الى ان جوهر الاشكال في الواقع التونسي انما يكمن في الصراع بين النهضة والجبهة.. وهو صراع سياسي خلفياته فكرية وايديولوجبة استفادت منه بالاساس قوى الثورة المضادة بتاليب هذا على ذاك ... واذ اتفق معه في ان الواقع التونسي تعتوره ازمة اصطفاف في القوي الفاعلة بين خط الثورة وخط الثورة المضادة فاني اود ان الفت نظره الى ان الفاعلين السياسين يتسع نطاقهم ليشمل غيرهم من التيارات القومية العديدة التي اتخذت بدورها مواقف مناوىة بشكل او باخر للنهضة.. وهو ما جعل النهضة قاب قوسين او ادني من ان تحشر في الزاوية ليمارس عليها ما مورس في التسعينات او ما مورس على الاخوان في مصر..وكل ذلك قد تم في ظل قصف اعلامي ممنهج وضغوط دولية واستخباراتية حادة ما عادت اثارها خافية على احد.. وقد مورست تلك الضغوط في اطار تحفظ دولي لازال قاىما حيال "الاسلام السياسي".فلم يكن من خيار للنهضة سوى المناورة بالدخول في غمار مسار التوافقات _ مثار الجدل المحتدم في داخلها_ وهو مسار قد تؤتى النهضة من قبله... تلك بعض معطيات يجب ان تحضر حضورا قويا في كل قراءة متأنية تروم ان تكون موضوعية.. وانا وددت ان اذكر بها دون ان أخلي النهضة من مسؤوليتها وابرىها من قصورها عن الايفاء بكثير من تعهداتها حيال الثورة واستحقاقاتها