كتاب عربي 21

الإعلام التونسي أو الطبق المسموم

محمد هنيد
1300x600
1300x600
عندما تجتمع العائلات التونسية أمام شاشة التلفاز لتستمتع أو لتستخبر أو لتفهم واقعها أو بعضا منه فإنها بذلك تمارس عادة اجتماعية جعلت من التلفاز ومن وسائل الإعلام جميعها من إذاعة وصحف وتلفاز جزءا من الواقع اليومي للمواطن. لكن العائلة أو الفرد الذي يجعل من الوسيلة الإعلامية جزءا من لحظاته اليومية لا يعلم حجم السموم التي يحويها الطبق الإعلامي التونسي الذي جُعل ليحقق كل الوظائف باستثناء وظيفة الإعلام أو الإخبار.

لكن ما يميز الإعلام التونسي عن نظيره العربي هو ما حققه من مستويات مرتفعة في منسوب الرداءة وما بلغه من المراتب متقدمة في نسبة التزييف والتضليل ونشر الدعارة وضرب القيم وبث الكراهية وغسل العقل الاجتماعي الفردي والجمعي. وهو مستوى لا ينافسه فيه إلا الإعلام المصري صاحب الصدارة العربية بلا منازع في احتقار العقل البشري وفي التضليل الممنهج الذي مسح الوعي المصري مسحا ورسخ أقدام كل النماذج الاستبدادية العسكرية التي تتحكم في رقاب المصريين.

فبقطع النظر عن الماضي الإجرامي للمؤسسة الإعلامية التونسية التي كانت ركيزة أساسية من ركائز الجهاز القمعي للدولة البوليسية خلال حكم الوكيلين بورقيبة وبنعلي فإن هذا الجهاز التضليلي قد اضطلع بأخطر الأدوار سواء خلال الثورة أو في المرحلة التي تلتها والتي لا تزال تمتد إلى اليوم.

 كان المرفق الإعلامي الذي يعيش من عرق التونسيين ومن ثرواتهم عصا بن علي الضاربة خلال الثورة حيث وقف الإعلام المرئي والمسموع والمقروء  إلى جانب جلاد الشعب ضد الشعب وضد ثورته فشيطن الثورة والثوار ونعت أحرار سيدي بوزيد والقصرين "بالأوباش" و"الإرهابيين" و"المرتزقة" و"المأجورين".

لكن بعد هروب الجنرال الرئيس أصيب المرفق الإعلامي بالصدمة وحاول قدر الإمكان امتصاص الموجة الأولى ونجح في ذلك إلى حد كبير جدا بفعل تغلغل الدولة العميقة في المفاصل السحيقة للدولة ومؤسساتها. نجحت الدولة العميقة في المحافظة على أداتها الأخطر وهي المرفق الإعلامي، بل عمل المال السياسي الخليجي والأوروبي على ضخ مبالغ كبيرة في الأوعية الإعلامية التي تناسلت ونجحت مستفيدة من حالة الفوضى التي تعقب الثورات في ضرب الاستقرار الاجتماعي وإشاعة الفتنة وتغذية الاحتقان.

كان هدف إعلام الثورة المضادة أو "إعلام العار" كما يسميه الناشطون التونسيون بيّنا وهو التنفير من الثورة بضرب مكاسبها وتصويرها مؤامرة أجنبية في شكل يذكّر بمحاسن الاستبداد وبعهد "الأمن والأمان" الذي كان ينظر له "جامعيو نوفمبر" من ماسحي أحذية الاستبداد.

فخلال صيف 2013 أي ربيع الثورة المضادة ـ التي نجحت في الانقلاب على التجربة المصرية وفي ذبح تجربة أول حكم مدني في مصر ـ مارس الإعلام التونسي أخطر الأدوار وأقذرها بتسخير كل الأدوات من أجل استنساخ التجربة المصرية في الانقلاب على الحكم. بعد فشل التجربة التونسية في الانقلاب الهرمي عاد الإعلام المحلي إلى دوره القديم المتمثل أساسا في محاربة القيم ونشر الدعارة وضرب الهوية الوطنية وتجفيف منابع التدين في بلد مسلم محافظ.

لكن أكبر جرائم الإعلام التونسي على كثرتها هو حربه المكشوفة على اللغة العربية التي تحولت إلى هدف معلن لكل البرامج المسموعة والمرئية حيث عُوّضت اللغة الرسمية ـ بنص الدستورـ بخليط هجين من لهجة العاصمة وبعض الفرنسية بشكل أصبح يشكل خطرا كبيرا على هوية المجتمع وعلى أمنه اللساني الذي لا ينفصل عن بقية المنظومة الأمنية والسيادية مثل المنظومة الغذائية والقيمية والعقائدية.

إن محاولة جعل لهجة العاصمة لغة وطنية تعوّض العربية في التخاطب اليومي وفي المرافق الإعلامية هي خطة محكمة لا تخطئها العين في تونس لأن اللهجات الأخرى وخاصة لهجة الجنوب، فلا يشار إليها إلا عند البحث عن التندر والسخرية من المناطق الداخلية في المسلسلات البائسة التي يقدمها التلفزيون الرسمي أو الخاص خلال شهر رمضان.

إن الحرب على اللغة العربية سواء في المرافق الإعلامية أو في البرامج المدرسية نفسها مع غض الدولة الطرف عن هذه الجرائم الخطيرة في حق الشعب وثقافته وهويته يكشف تورط الدولة نفسها ومشاركتها في هذا الجرم الذي يستهدف أجيالا بأسرها. 

لا يختلف تونسيان اليوم على أن الإعلام التونسي بلغ ما دون الحضيض من حيث الخطاب والشكل والمضمون بل بات يشكل خطرا على الدولة نفسها خاصة بعد استفحال شراء الصحفيين وإيجارهم لهذا الفصيل السياسي أو ذاك أو لصالح رجل الأعمال هذا أو ذاك. لكن من فضل الله على شعب تونس وعلى شعوب العرب أن منّ عليهم بوسائل التواصل الاجتماعي التي لم تعد تقتصر على نشر ما لا ينشره الإعلام الرسمي بل تحولت إلى فاضح وكاشف لجرائم هذا الإعلام.

اليوم تمثل وسائل الإعلام التونسية والأخبار التي تنشرها محرار به يقاس حجم نجاح الثورة المضادة في كتم أنفاس الثورة وفي قتل الشعارات التي من أجلها استشهد شباب الوطن، بل هي كذلك مرآة تعكس نجاح الدولة العميقة في استعادة المجال الذي انتزعته منها ثورة الشعب الفقير.

لن تستطيع مهما حاولتَ أن تشاهد التلفاز التونسي مع عائلتك لأن حجم السقوط الأخلاقي الذي ينشره هذا الإعلام قادر على تنفير أشد الناس صبرا وأكثرهم جلدا. ولن تستطيع مهما حاولت أن تصبر على حلقات النقاش التعيس الذي يؤثث البرامج الحوارية التي تهدف إلى تضليل المشاهد وتدمير وعيه وتزييف إدراكه بنفسه وبالعالم. 

لن تنجح الثورة ما لم تتخلص من سموم إعلام العار التونسي وما لم تكنس من مجالها السمعي والبصري بقايا نظام بن علي من البوليس الإعلامي ومن مخبري الخبر وجلادي الفكر والوعي لأنهم يمثلون أخطر بقايا الاستبداد وأشد بذوره فتكا وتدميرا. 
0
التعليقات (0)