كتاب عربي 21

في مفهوم الاغتيال..

طارق أوشن
1300x600
1300x600
فيلم أمير الظلام - 2002، إخراج رامي إمام

صورة لرجل ملتح على شاشة عرض داخل قاعة يجتمع فيها عدد من قيادات جهاز أمني مصري.

هاشم: ماركوس سوسة، حوالي 45 سنة، واحد من أخطر الإرهابيين المعروفين على المستوى الدولي. شارك في العديد من الاغتيالات السياسية في إيرلندا وإيطاليا وإنجلترا وكرواتيا. لا ينتمي لأي تيار سياسي بالإضافة إلى أنه لا يؤمن بأي عقيدة دينية. يعني بيبيع نفسه للي يدفع أكثر. محترف أو بمعنى أدق سفاح محترف. كل المعلومات ايلي جات لينا من أجهزة الأمن اليونانية بتأكد أنه هو ده الشخص ايلي دخل مصر الأسبوع ايلي فات في التابوت بالإضافة لاختفائه المفاجئ والمثير للقلق لقاؤه بعدة شخصيات إرهابية مرتزقة معروفة على مستوى أوروبا.

مسؤول الأمن القومي: والراجل ده هنا ليه يا هاشم؟ وهل هو لوحده ولا معاه ناس ثانيين؟

هاشم: ده يا افندم اسيلي احنا حنحاول نعرفه في أسرع وقت ممكن.. عموما يا افندم الملف ده بيرصد كل التجمعات والتظاهرات الثقافية والسياسية والدينية الموجودة في البلد الفترة ده.. طبعا أهمها على الإطلاق زيارة الضيف الكبير للبلد ولقاؤه بالسيد رئيس الجمهورية بعد عدة أيام.

مسؤول الأمن القومي: يبقى الراجل ده لازم توصل له في أسرع وقت يا هاشم.. ضاعف التأمين على كل المناسبات الموجودة.. اتصل بكل الجهات الأمنية المسؤولة على تأمين خط سير الرئيس الضيف من المطار إلى محطة الوصول.

لا يختلف هذا المشهد كثيرا عن حيثيات البلاغ الذي صدر مؤخرا عن نيابة أمن الدولة العليا بمصر بشأن تحويل ما يقارب الثلاثمائة متهما إلى القضاء العسكري على خلفية التحضير لاغتيال عبد الفتاح السيسي داخل البلاد وخارجها.

في الفيلم اختار الإرهابيون دارا للمكفوفين لتكون محطة انطلاقة لهجومهم على موكب الرئيس المصري وضيفه الكبير. وفي الواقع، كان خيال المخابرات أكثر جموحا حيث اختاروا برج الساعة بمكة المكرمة وإنقاذ أمير سعودي من الاغتيال داخل الحرم المكي توابلا لفيلم رديء لا يلعب على فقدان رواد دار المكفوفين للبصر، كما في فيلم أمير الظلام، بل على فقدان الشعب للبصيرة للقبول بهذا السيناريو المبتذل. برج الساعة حيث مهبط طائرة العائلة الملكية وفندق يفترض أن ينزل فيه السيسي وهو يؤدي "عمرته"، وزوجة لأحد أعضاء الخلية الإرهابية مستعدة لتفجير نفسها لإلهاء القوات السعودية ليتكفل زملاء زوجها بتصفية السيسي. وفي محاولة الاستهداف الداخلية هجوم على موكب رئيس الانقلاب في الطريق العام.. إذا كان المتحدث أحمقا فعلى المستمع التحلي بأقل قدر من العقلانية والاتزان.

ليس جديدا ما يتم الترويج له من محاولات اغتيال فاشلة للرؤساء استدرارا لتعاطف الجمهور وشحنا لأنفسهم ضد "القتلة المجرمين". فقبل أيام مرت الذكرى الثانية والستون لحادثة المنشية التي روج نظام يوليو أن الرئيس جمال عبد الناصر كان مستهدفا فيها بما برر حملته الشرسة على جماعة الإخوان المسلمين ومن خلالهم تكريس القبضة الأمنية على البلد في مواجهة الأخطار المحدقة بالزعيم والوطن في الداخل والخارج. اثنان وستون سنة مرت على الحادثة لكن الجدل لا يزال متواصلا حول صدقية الحادث والغموض محيطا بحيثياته. ولأن نظام عبد الفتاح السيسي يتأرجح في بحثه عن "شرعية" الوجود بين استحضار أحلام نبوءات السادات، واستلهام النموذج الناصري، كان من اللازم أن يبادر بالإفصاح عن تحقيقاته في عمليات اغتيال مفترضة ظلت طي الكتمان سنين عددا.

أحد المنجمين كان فتح له المجال في الفضائيات الداعمة للانقلاب لينشر توقعاته بقرب اغتيال السيسي من داخل القصر الجمهوري قبل متم سبتمبر الأخير. كان المنجم يرى موت السيسي رأي العين فكما قال: الحذر لا يلغي القدر.

يفتح باب إحدى الغرف ويخرج منها مسؤول الأمن القومي ووراءه هاشم وعدد من القيادات والتوتر باد على محياهم..

مسؤول الأمن القومي: الرئيس الضيف مستهدف يا هاشم وانت عارف أنه مش حيكون لوحده. ضاعف الخدمات والغ الراحات والأجازات واعمل اجتماع فورا مع القيادات الأمنية.

هاشم: طب يا افندم ممكن نحاول إلغاء الزيارة أو على الأقل تأجيلها.
مسؤول الأمن القومي: أي تأجيل أو تغيير معناه تقصير من ناحيتنا يا هاشم.
هاشم: نحاول. الظرف ....
مسؤول الأمن القومي: مفيش محاولة.. السيد الرئيس رافض أي تغيير في استقبال الرئيس الضيف.

هذا في الفيلم.
أما في الواقع فقد تغيب "السيد الرئيس" عن الحضور إلى القمة العربية بموريتانيا قبل أشهر، وهو رئيس الدورة السابقة، وكلف رئيس وزرائه بتسليم المشعل للرئيس الموريتاني، والتبرير اكتشاف المخابرات لمحاولة اغتيال تستهدف "سيادته" بدعم من دولة معادية لمصر. كان غريبا أن يتخلف السيسي عن قمة عربية، لم يحضرها من "الزعماء" إلا قليلون، وهو الذي دأب على حضور المؤتمرات مهما صغرت ومهما كانت ضد الإجماع العربي، بحثا عن "اعتراف" بشرعية زائفة ولو كان مستقبلوه من أدنى مستويات التمثيل في بلدانهم أو كان الإحراج علامة مميزة لكل الزيارات.

وعلى طريقة سعيد المصري، الطيار المتقاعد المكفوف وصاحب القدرات الخارقة التي تفوق المبصرين في فيلم أمير الظلام، تمكنت المخابرات من تجنيب الرئيس خطر الاغتيال ومعه أمير مسؤول في بلده عن الداخلية ومحاربة التنظيمات المسلحة "فوق البيعة".

بين محاولات الاغتيال وتقديم صور الرؤساء والزعماء "الآدمية" من خلال تسريبات مدروسة، والنفخ في تواضعهم وحسن تعاملهم مع أبناء الشعب وغيرها من وسائل التأثير في عموم الناس، يواصل كثير من "زعماء" العرب السير على نهج التضليل مهما كان الثمن غاليا على صورة الأوطان ومصداقية مؤسساتها. وهم كنجوم الفن يتغذون من الشائعات في محاولة مستميتة لإلهاء الشعوب عن المشاكل الحقيقية التي تعوق إقرار أنظمة مؤسسات حقيقية ترتقي بالمواطنة وتضمن الحقوق.

غير ذلك، أي معنى سيكون لاغتيال رئيس أو أمير أو ملك في بلدان اغتال فيها الاستبداد معاني الأمل والطموح وأجهز فيه القمع على الإيمان بالمستقبل وبمعنى الوطن.

من يدفع "المواطن" للكفر بالوطن ميت لا محالة اغتيالا جسديا توثقه الكاميرات وعدسات التصوير، أو نسيا من التاريخ تتجاهله الكتب والمقررات وترمي به في مزابل النسيان.
0
التعليقات (0)