كتاب عربي 21

أموال الاستثمار في تونس بين عطش الفقراء ونهم الفاسدين

محمد هنيد
1300x600
1300x600
تُوّجت في تونس منذ يوم فعاليات مؤتمر الاستثمار الذي جمع مجموعة هامة من الدول العربية والأوروبية من أجل دعم الاقتصاد التونسي المتهالك بفعل المسار الانتقالي المتعثر وبفعل عديد العوامل الداخلية والخارجية. قدمت الدول العربية مبلغا هاما كما قدمت المجموعة الأوروبية جملة من الوعود الاستثمارية التي تهدف إلى تخفيف حالة الاحتقان الاجتماعي من ناحية ومنع انهيار الاقتصاد الهش من ناحية ثانية. 

احتلت دولة قطر المرتبة الأولى عربيا بمبلغ ناهز المليار والربع من الدولارات كما قدمت المملكة العربية السعودية هبة بمائة مليون دولار وظرفا استثماريا بسبع مائة مليون دولار أما الكويت فقدمت قرضا بخمس مائة مليون دولار موزعة على خمس سنوات.

الشارع التونسي رحب كثيرا بالمؤتمر الذي تكفلت دولة قطر بكل تكاليفه التنظيمية واللوجستية. هذا الترحيب يأتي بسبب الأزمة الخانقة التي أطبقت على مفاصل الاقتصاد التونسي فأصابته بالشلل. عديدة هي العوامل التي تفسر هذا الشلل وهي أسباب يعرفها كل أهل تونس وأهمها فساد الإدارة بشكل تحول معه الفساد إلى دولة داخل الدولة بل إن الفساد هو الدولة نفسها.

قد يرى البعض في هذا الحكم تجنيا على البلاد ومبالغة كبيرة لكن الحقيقة التي يعلمها كل ساكنة إفريقية هو أن سبب فقرهم وسبب تداينهم وسبب المؤتمر نفسه إنما هو الفساد والإفساد الذي جعل من الاقتصاد الوطني رهين حفنة من المتنفذين ومن العائلة الاقطاعية التي جعلت من الدولة وأملاكها مزرعة عائلية خاصة. 

خذْ كل القطاعات والوزارات والإدارات فلن تجد غير منظومة محكمة من المسؤولين الفاسدين الذين يستنزفون الدولة وخيراتها ويبيعون ثروات الوطن لشركات النهب العالمية بأبخس الأثمان ومن أجل بعض الملايين التي يحولونها إلى حساباتهم المصرفية خارج البلاد. 

زد على ذلك منظومة ضريبية قُدّت على مقاس الفاسدين ولصالح الأغنياء وأشباههم فلا المحامون ولا الأطباء ولا الكثير من القطاعات الحرة ملتزمون بدفع ضرائبهم بل يستنزفون الدولة كما يستنزفها كبار رجال الأعمال بالقروض الخيالية التي لا تعود إلى خزينة الدولة أبدا.

على الطرف الآخر للمشهد التونسي يقبع ملايين الفقراء خاصة في المناطق الداخلية المسحوقة سواء في جنوب البلاد أو وسطها أو شمالها حيث يفتقر المعذبون في الأرض إلى أبسط ضروريات البنية التحتية من طرقات وماء وكهرباء ومدارس ومستشفيات. ففي تونس تخفي البطاقة البريدية للسياحة التونسية جيوبا ضخمة للفقر والعوز والحاجة كما تحجب قصصا مرعبة عن الخصاصة التي أسقط فيها نظام الاستبداد التونسي ـ مع الوكيليْن بن علي وبورقيبة ـ آلاف العائلات التي لا تزال إلى اليوم تصارع من أجل قوتها وقوت أطفالها.

صحيح أن النظام القمعي خلال حقبة الاستبداد قد نجح في تدمير الطبقة الوسطى وفي تهميش الداخل التونسي الذي وجد نفسه خارج خطط التنمية فتحول إلى ساحات واسعة لكل العاهات الاجتماعية وانخرط في حالة الموت البطيء التي واكبها تجهيل منظم وإعدام لكل وسائل الخروج من الفقر إلا بالتحالف مع النظام القمعي أو بالهجرة والهروب أو الموت والانتحار.

هكذا أفرغ المنوال الاستبدادي قرى بكاملها من شبابها ومن قواها الحية القادرة على تغييرها وعلى إخراجها من حالة الموت الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. فتكونت موجات الهجرة الأولى مبكرا سواء نحو المدن فنشأت بذلك أحزمة الفقر ومدن الصفيح التي لا تزال تطوق العاصمة تونس أو نحو أوروبا لتجلب بالعملة الصعبة مداخيل إضافية للعائلات الحاكمة.

أما بعد الثورة المباركة ثورة 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 فلا يزال صنّاع الثورة نفسها من الفقراء والمسحوقين والمعطلين والمهمشين ينتظرون قطار التنمية الذي طال انتظاره. 

فلقد لعبت الاعتصامات والاضرابات التي قادتها القيادات النقابية من رموز الدولة العميقة دورا خطيرا في تركيع الاقتصاد وفي إحلال حالة الفوضى وفي تنفير المستثمرين بشكل فاقم من حالة العجز الاقتصادي وضاعف من منسوب الاحتقان الاجتماعي.أما ضعف مؤسسات الدولة بسبب هشاشة المسار الانتقالي فقد ساهم هو أيضا في انتشار ظواهر الفساد سواء ما تعلق منه بالصفقات العمومية أو ما اختص بنهب المال العام وبضرب المؤسسات الحكومية واستنزافها. 

هكذا دمّرت المطلبيّة المتطرفة كامل المسار الانتقالي للثورة التونسية كما ساهمت العمليات الإرهابية المشبوهة في نسف ما تبقى من البناء الاقتصادي فتضرر قطاع السياحة بشكل كبير ومفزع وأغلقت أغلب المؤسسات السياحية أبوابها دافعة بآلاف العمال إلى الشارع المشتعل أصلا.

اليوم يمثل مؤتمر الاستثمار حقنة منشطة جديدة في الجسد التونسي العليل فتشكل الأموال المرصودة فرصة نادرة من أجل وضع المسار الانتقال على الطريق السليم والخروج بشكل نهائي من منطقة الخطر التي سقطت فيها ثورات الربيع الأخرى. 

إنّ إبقاء المنظومة القضائية والمنظومة الجبائية والمنظومة المالية كما هي عليه اليوم في تونس لن يسمح بالتقدم خطوة واحدة على طريق بناء الاقتصاد ولن تستطيع كل مليارات الأرض النهوض بالاقتصاد التونسي ولا النهوض بجيوب الفقر والمفقرين لأن الفساد الذي ينخر الدولة ومؤسساتها قادر على ابتلاع أمواج المحيط من الدولارات مثلما تؤكد ذلك التجربة المصرية. 

عندها وعندها فقط يستنفذ الفقراء صبرهم بعد تبخّر كل المليارات التي أسندت لتونس وساعتها ستعود أمواج المهمشين والمسحوقين عالية صاخبة تعانق السماء لتطحن جيوب الفساد والمفسدين فتستعيد الجماهير كرامتها وتستعيد ثروتها وتبني مستقبلها ومستقبل أبنائها وتزأر شعارها الأصيل "التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق" رغم خيانة النخب وتضليل إعلام العار التونسي.
التعليقات (0)