قضايا وآراء

تركيا والخيار الصعب

خلدون الشعبي
1300x600
1300x600
تناولت وسائل الإعلام خلال الأسبوع الماضي تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول إمكانية فك الارتباط بالمعسكر الغربي، والانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون والكتلة الشرقية بقيادة روسيا والصين. وتأتي تلميحات أردوغان في إطار نفاد صبر أنقرة من تسويف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وارتفاع نبرة الخطاب مع واشنطن، في الوقت الذي يمد فيه بوتين يد المصالحة والشراكة بعد فترة من الشد والجذب.

بالتوازي مع الفرص المتاحة، تبرز محاور التحديات والعواقب، ففي الوقت الذي تشهد فيه العلاقة التركية - الغربية حالة من الفتور، لا يمكن الضمان بأن الدفء الروسي لن يتحول إلى لهيب مشتعل.

تركيا والغرب

بدأت شراكة تركيا مع الغرب بانضمامها إلى حلف شمال الأطلسي – الناتو – في 1952، ومنذ البداية لعبت دورا محوريا في الحلف عبر عاملين: عامل أول جغرافي يتمثل في موقعها القاري بين آسيا وأوروبا وعمقها الاقليمي بين الشرق الأوسط والبلقان وأورواسيا، بالإضافة إلى سيطرتها على المنافذ بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط. وعامل بشري لا يقل أهمية عن سابقه، فأوروبا التي خرجت حينها من الحرب العالمية الثانية كانت تعاني من نقص الموارد البشرية، ومثل الأتراك رافدا مهما لقوات المشاة في الحلف.

استمرت الشراكة بالنمو حتى بعد انتهاء الحرب الباردة وزوال التهديد السوفييتي الذي كانت تركيا أول خط هجوم ودفاع لمواجهته، حيث شهدت فترة التسعينيات والألفية تعميق سياسة الحلف مع جناحه الجنوبي عبر استخدام القواعد العسكرية في تركيا في حملاته على غرار "أنجرليك"، بالإضافة إلى نصب الدرع الصاروخي ورادارات الإنذار المبكرة في أنقرة لحماية أوروبا من أي استهداف بالصواريخ الباليستية. وتضاعف التأكيد على أهمية الحليف التركي في خطابات المسؤولين الأوروبيين مع تفاقم أزمة اللاجئين، وتسلل المتطرفين إلى داخل العمق الأوروبي.

في المقابل، لا يمكن إغفال حقيقة أن تركيا استفادت هي الأخرى من عضويتها في الحلف، التي لطالما مثلت جزءا من هويتها الاستراتيجية، وعنصرا فعّالا في سياستها الخارجية منحها المظلة للعديد من الخطوات الكبيرة على غرار غزوها لقبرص في 1974 وإسقاط الطائرة الروسية العام الفائت. غير أن المقارنة تظهر بوضوح بأن الناتو والمحور الغربي بشكل عام؛ هو المستفيد الأكبر من هذه الشراكة.

وعلى الرغم من طبيعة العلاقة الاستراتيجية، فإن الغرب ينظر إلى تركيا كحليف مهم جدا، ولكن ليس أبعد من ذلك. فتركيا، وإن اتصلت جغرافيا بأوروبا، إلا أنها تمثل كيان تاريخي وثقافي غريب عن القارة، وفي حالة أصبحت عضوا في الاتحاد الأوروبي فإنها ستمثل قرابة 20% من تعداد سكانه، وهو ما يبدو صعبا القبول به، لا سيما مع تنامي شعبية اليمين السياسي في أوروبا.

قد تمثل العلاقة وفق ميزانها الحالي خيبة أمل للأتراك، في الوقت الذي لا ترتقي فيه الفرص التي يتيحها البقاء في الناتو والتقارب مع الاتحاد الأوروبي لمستوى الآمال المعقودة عليها، إلا أن الخروج من حلف شمال الأطلسي قد يجلب معه تحديات أصعب، حيث ستتحول العلاقة من الشراكة الانتقائية إلى التوتر، ما قد يستجيب له الناتو بمضاعفة حضوره في اليونان وعسكرة بحر إيجة الذي يربط تركيا بالمتوسط، ما سيؤثر على حرية حركة السفن التركية والقادمة من البحر الأسود، في حالة مماثلة لأزمة صواريخ قبرص منتصف تسعينيات القرن الماضي.

البديل الشرقي

على الطرف الآخر، تحاول موسكو طرح نفسها كحليف بديل، مستغلة الخريف التركي -الأمريكي/ الأوروبي. من الوهلة الأولى يبدو التقارب التركي الروسي مثمرا، لا سيما مع استئناف محادثات مد أنبوب تصدير الغاز، الذي سيحقق مصالح كبرى لكلا البلدين، فروسيا المحاصرة جغرافيا ستستفيد من العمق التركي للحصول على منفذ إلى المتوسط لتصدير غازها نحو السوق الأوروبية، بينما ستؤمن تركيا الفقيرة بموارد الطاقة احتياجها من الغاز بسعر مخفّض. وعلى نفس الوتيرة، فإن تكامل جغرافيا تركيا وموارد روسيا يفتح الباب لعلاقة تجارية مميزة.

غير أن انضمام تركيا للكتلة الشرقية ومنظمة شنغهاي للتعاون (SCO) ينصدم بالعديد من التحديات، أبرزها غياب الاتصال الجغرافي بينها ومركز الكتلة الجيوسياسية الذي يقع في آسيا الوسطى، ما يعطل حرية التنقل وإمكانية التبادلات بين الطرفين، كما أن المنظمة التي تأسست قبل 17 عاما فقط؛ لا تزال في طور التكون، ولا يمكن أن توفر مظلة أمنية وسياسية مماثلة للناتو. وإذا كانت التباينات السياسية هي ما تدفع أنقرة إلى التفكير في التحول عن الكتلة الغربية، فإن الحال مع دول منظمة شنغهاي ليس بأفضل من سابقه، ولا سيما مع روسيا على وجه الخصوص، التي تتناقض رؤيتها مع تركيا في العديد من القضايا السياسية، أبرزها الملف السوري، الأمر الذي يجعل العلاقة بين الطرفين هشة، ولا يمكن أن تصل إلى حد الشراكة الاستراتيجية.

بعد واحد لا أكثر

منذ تولي حزب العدالة والتنمية لدفة الحكم، سعى الحزب إلى رسم سياسة خارجية جديدة تعتمد على عناصر القوة الاستراتيجية لتركيا، وكان من نواتج هذا التوجه تقليل الاعتماد على الغرب، واعتماد السياسة المتعددة الأبعاد، والنأي بتركيا عن الانضمام إلى قطب ضد آخر، وفق مبدأ تصفير المشاكل، إلا أن هذا الأمر يبدو أكثر تعقيدا في خضم المعطيات الراهنة بين جوار إقليمي مضطرب ونظام عالمي منقسم، حيث غدا أي اتفاق اقتصادي أو تقارب دبلوماسي حدثا أمنيا بامتياز، وتهديدا مباشرا للطرف الآخر. فرجوعا إلى أنابيب الغاز الروسية، فإن تركيبها سيؤمن لروسيا خطا جديدا للوصول إلى الأسواق الأوروبية يتيح لها الاستغناء عن الإمداد عبر أوكرانيا، وإمكانية قطعه في حالة أرادت موسكو استخدام الطاقة كورقة ضغط ضد كييف دونما التأثير على كمية التصدير الذي سيستمر عبر الخط التركي، وهو ما يساهم في رفع مستوى الأمان الاقتصادي لروسيا، بينما في المقابل فإن امتلاك موسكو لهذه المرونة في التصدير والمقدرة على قطع الإمداد بشكل انتقائي عن القارة الأوروبية؛ يشكل تهديدا لأمن الطاقة فيها، خاصة مع ارتفاع وتيرة التوتر بين روسيا والاتحاد الأوروبي على خلفية غزو الأولى لإقليم القرم، ودعمها للانفصاليين في أوكرانيا. هذه الحالة من العلاقة العكسية بين مستوى الأمن للطرفين ينذر باحتمالية نشوء معضلة أمنية (Security Dilemma) تجعل القرار التركي أكثر تعقيدا.

في الوقت الذي يتعامل فيه الغرب مع ملفاته وتركيا بمزاجية وانتقائية شديدة، تبدو العلاقات الغربية - التركية أقرب إلى الاستغلال منها إلى الشراكة المتكافئة. اتجاه تركيا شرقا يمثل خطة نحو تعزيز الهوية التركية واستقلاليتها عن سطوة الناتو، إلا أنه في المقابل قرار قد يجلب معه العديد من التحديات الصعبة.
التعليقات (0)