كتاب عربي 21

كيف يمكن أن ترد السعودية على تراجع موقعها في السياسة الأمريكية؟

فراس أبو هلال
1300x600
1300x600
بات واضحا من تطورات السنوات الثلاث الأخيرة، أن موقع السعودية في الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط قد تراجع كثيرا، وأن الولايات المتحدة لم تعد تعتبر العلاقة مع الرياض ركنا أساسيا من أركان سياستها في المنطقة.

ولم يكن إقرار قانون "جاستا" بهذه الغالبية الكبيرة من أصوات المشرعين في غرفتي الكونغرس الأمريكي، سوى مجرد نتيجة للاستراتيجية الجديدة؛ إذ إن حصول القانون على هذه الأغلبية الكبيرة من نواب الحزبين الجمهوري والديمقراطي وإسقاطهم للفيتو "الشكلي" لأوباما، يعني أن الأمر بات مستقرا في السياسة الأمريكية، خصوصا إذا علمنا أن العرف في صناعة السياسة الخارجية في واشنطن يقوم على مركزية الرئيس، خصوصا فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط.

ويمكن الإشارة إلى عدد كبير من الشواهد على تراجع الدور السعودي في الاستراتيجية الأمريكية خلال الأعوام الماضية، إلا أن أهمها وأكثرها مركزية ما يلي:

أولا: تناقض الرؤية الأمريكية مع السعودية تجاه الربيع العربي. فبينما تعاملت واشنطن ببرود مع الإطاحة بحسني مبارك – التي تبين فيما بعد أنها كانت انحناءة من الجيش لإخماد الثورة الشعبية- كانت الرياض عاتبة على أمريكا بسبب تخليها عن "حليف" رئيسي لها، وما قد يعنيه ذلك –في تلك المرحلة على الأقل- من تدحرج كرة الثلج لتطال أنظمة أخرى حليفة لواشنطن، وهو ما لم يحدث على أية حال!

ثانيا: الخلاف حول الأزمة السورية. فبينما أدت السياسية الأمريكية عمليا إلى إطالة الحرب، وبالتالي إلى المزيد من الضحايا والخسائر المادية والتدمير، كانت الرياض تسعى إلى تدخل أمريكي عسكري حقيقي يقود إلى مرحلة انتقالية، تبقي على هياكل الدولة ولكن دون بشار الأسد. ويمكن القول إن الخلاف الجذري في الموقف من سوريا، بدأ مع توقيع الاتفاق حول البرنامج الكيماوي السوري، الذي قوى نظام الأسد، وأعطى لروسيا ورقة رابحة في المعادلة السورية، خلافا لما كانت تتمنى الرياض.

ثالثا: الانفراج التدريجي في العلاقات الأمريكية الإيرانية، ودفع واشنطن باتجاه توقيع اتفاق النووي بين طهران ودول الخمسة+1 الذي أدى إلى إعادة إيران للمنظومة الدولية، وتخفيف الحصار عنها، وقبولها، بشكل أو بآخر، كدولة نووية. لقد نظرت السعودية لهذا الاتفاق على أنه ضربة كبيرة لسياستها في المنطقة، التي تقوم على عزل طهران –ما دامت متمسكة بنهجها الحالي- كما قال وزير الخارجية السعودية أكثر من مرة.

وإذا اعتبرنا أن هذه الشواهد كافية على تراجع الدور السعودي في السياسة الخارجية الأمريكية، فإن هذا التراجع تزامن أيضا مع "أزمة" اقتصادية بسبب تراجع أسعار البترول؛ قد يزيد من تفاقمها قانون "جاستا" الذي أدى إقراره إلى هبوط حاد في أسواق المال السعودية خلال أيام، وقد يحمل آثارا اقتصادية أكبر خلال الأشهر القادمة.

وإزاء هذه التغييرات الكبيرة في السياسة الأمريكية تجاه السعودية، فإن الرد بخطوات تكتيكية من الرياض لن يمكنها من مواجهة الأزمات الداخلية والخارجية المتصاعدة، كنتيجة لتراجع الدور السياسي في المنطقة والتراجع الاقتصادي في الداخل، بل إن السعودية بحاجة لرؤية استراتيجية تختلف جذريا عن سياساتها الاقتصادية والسياسية داخليا وخارجيا.
 
السياسة الخارجية والحاجة لرؤية جديدة

إن أولى الخطوات المطلوبة سعوديا لاستعادة زمام المبادرة في الإقليم ومواجهة المنافسين الإقليميين وخصوصا إيران، هي الخروج من عباءة الاستراتيجية الأمريكية. لقد أدّت السعودية دائما أدوارا إقليمية كبيرة في الملفات الساخنة كافة، ولكنها أدوار ظلت تدور في فلك الاستراتيجية الأمريكية. صحيح أن خلافات كثيرة حصلت بين الرياض وواشنطن عبر العقود الماضية، لكنها خلافات تبقى في إطار التباين بين "حلفاء".

وإذا أرادت الرياض أن تؤدي دورا استراتيجيا يليق بحجمها في المنطقة، فمن المهم أن تدرك أولا أن سيطرة أمريكا كقطب واحد ووحيد في العالم قد انتهت، وأن أي دولة تريد الحفاظ على موقعها الإقليمي لا بد أن تمتلك سياسة خارجية مستقلة و "غير متوقعة". لقد أدارت واشنطن ظهرها لحليف استراتيجي مثل الرياض لأنها تعتقد أن "الغضب السعودي" لن يؤدي إلى خسارة كبيرة، أو تأثيرات سلبية على سياساتها في المنطقة، بينما اضطرت إلى توقيع اتفاق مع طهران بعد خلافات استمرت لعقود، كما اضطرت لتقبل سياسة موسكو ودورها المتصاعد في مناطق نفوذها بالشرق الأوسط؛ لأنها أرادت تحويل هذين الخصمين "المشاكسين" إلى أصدقاء أو على الأقل إلى لاعبين محايدين.

وتستطيع الرياض أن تكرس نفسها لاعبا إقليميا في المنطقة من خلال تغيير سياستها "جذريا" في عدة ملفات؛ وأول هذه الملفات هو تغيير المعادلة العسكرية في سوريا بالاتفاق مع تركيا، ولا يمكن تغيير المعادلة إلا إذا تجاوز التحالف السعودي التركي الخطوط الحمراء الأمريكية التي ظلت تمانع وصول مضادات الطيران والأسلحة النوعية للمعارضة السورية، وهو الأمر الذي أبقى على تفوق النظام الروسي المدعوم من روسيا وإيران والمليشيات التابعة لها. إن تحقيق أي تقدم سياسي في سوريا ومنح السعودية موقعا استراتيجيا فيها، لن يتم إلا بتجاوز الفيتو الأمريكي على تغيير الميزان العسكري لصالح المعارضة.

أما الملف الإقليمي الثاني الذي يمكن أن يعيد السعودي للمعادلة الإقليمية بقوة فهو العراق، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بالانفتاح على العراق بطوائفه كافة، وخصوصا العرب السنة، لتعبئة الفراغ الذي تركته السعودية وغيرها من الدول العربية لإيران في الخاصرة الشرقية للأمة العربية. وحتى تستعيد السعودية المبادرة في العراق فلا بد لها أن تخرج من الاستقطاب الطائفي، وأن تحاول مساندة الأطراف العروبية في المعادلة السياسية العراقية شديدة التركيب.

أما الملف الثالث فهو تغيير الاستراتيجية السعودية في اليمن، من خلال المزاوجة بين العمل السياسي والعسكري، وعدم الاقتصار على الحرب. لقد اكتسبت السعودية تعاطفا شعبيا عربيا ويمنيا عند إعلانها عن إطلاق "عاصفة الحزم" لإعادة الشرعية لليمن، ولكن طول الحرب أدى إلى خسارة بعض التعاطف بسبب المآسي التي خلفتها الحرب وسقوط الضحايا من المدنيين، إضافة إلى غياب الاستثمار السياسي السعودي لنتائج الحرب، ولذلك فإن استعادة الصورة الإيجابية للرياض في اليمن تقتضي أن تنهي المعاناة التي تسببها الحرب للمدنيين، وأن تبدأ مسارا سياسيا ينهيها، وأن تتحالف مع اللاعبين المحليين وعلى رأسهم التجمع اليمني للإصلاح كأكبر حزب منافس للحوثيين ولصالح، إضافة إلى شيوخ القبائل الذين يرتبطون بعلاقات تاريخية مع السعودية.

ونظرا لأهمية الصراع العربي الإسرائيلي في صناعة السياسات في منطقة الشرق الأوسط، فإن السعودية لن تستطيع أن تأخذ دورا محوريا في المنطقة دون الانغماس في الملف الفلسطيني، والانفتاح على جميع الفاعلين في المشروع الوطني الفلسطيني بما فيهم حركة حماس وغيرها من حركات المقاومة، والخروج من حالة الستاتيكو المتمثلة بالاكتفاء بطرح المبادرة العربية التي رفضت من قبل إسرائيل في عدة مناسبات.
 
تراجع النفط و "جاستا" والاقتصاد الريعي

اعتبر بعض الخبراء أن السعودية بدأت بالرد على قانون "جاستا" من خلال اتفاقها مع الصين على اعتماد الريال واليوان في تبادلاتهما التجارية، ورأوا أنها قد تتسبب بخسائر لأمريكا بسبب ارتفاع حجم التبادل التجاري بين البلدين، الذي بلغ أكثر من 49 مليار دولار في العام 2015. وفي وقت سابق هدد وزير الخارجية السعودي عادل الجبير ببيع الأصول التي تمتلكها بلاده في الولايات المتحدة، التي تزيد عن 612 مليار دولار، بحسب التقرير السنوي الأخير لوزارة الخزانة الأمريكية.

وبغض النظر عن جدية تهديدات السعودية ببيع الأصول، فإن عددا من الخبراء قلل من أهمية مثل هذه الخطوة ومن تأثيرها على الاقتصاد الأمريكي، وفي السياق نفسه يبقى الاتفاق مع الصين حول استبعاد الدولار خطوة معزولة، وربما جاءت ردة فعل مباشرة على جاستا.

ولكن ردّات الفعل لا يمكن أن تؤسس لاقتصاد قوي قادر على منح السعودية موقعا استراتيجيا في المنطقة، وإنما يمكن ذلك من خلال دراسة الخيارات التي تعزز من بناء اقتصاد إنتاجي غير مقتصر على النفط، والعمل على التخلص التدريجي من الرهان الكامل على السوق الأمريكي لاستثمار أموال الصناديق السيادية وشراء الأصول، واعتماد سياسة التعامل بسلة العملات لتجارة النفط بشكل كامل.

أما على صعيد السياسة الاقتصادية في الداخل، فإن تراجع أسعار النفط، والظروف السياسية والاقتصادية التي عاشتها السعودية خلال السنوات الماضية، كلها تشير إلى أنه لا يمكن الاستمرار بالاقتصاد الريعي في المملكة، وأن الوقت حان لميزانيات تقشفية، ولكن عقلانية، واقتصاد منتج، وتنمية بشرية تنهي اعتماد المواطن على الدولة.
 
الإصلاح الداخلي

إن أي سياسة ستتبعها السعودية الآن للرد على أزماتها الاقتصادية والسياسية، حتى تنجح، فإنها يجب أن تكون سياسة "مختلفة" وغير تقليدية، وهو ما يعني أنها ستتضمن خطوات "مؤلمة" قد تكلف المواطن السعودي أثمانا مختلفة، تؤثر على "الرفاه" النسبي الذي يعيشه بفضل الاقتصاد المبني على تصدير النفط.

وإذا كان الاقتصاد الريعي قد نجح عبر عقود طويلة في ضمان الاستقرار السياسي، وفي قبول فئات واسعة من المواطنين لغياب التمثيل الشعبي في الحكم، فإن الإجراءات التقشفية وأي خطوات سياسية أو اقتصادية "مؤلمة" أخرى ستؤدي إلى الإخلال بالمعادلة القائمة على قاعدة "لا ضرائب.. لا تمثيل"، وبالتالي فإن الإصلاح السياسي التدريجي وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في الحكم من خلال مجالس محلية وبرلمانية منتخبة، بات أمرا ضروريا لتمكين السعودية من صناعة دورها وموقعها الاستراتيجي في المنطقة.
 
0
التعليقات (0)