مقالات مختارة

رسالة خطرة

فهمي هويدي
1300x600
1300x600
ما هي الرسالة التي نقرؤها في ثنايا الأخبار التي تنشرها الصحف المصرية بشأن إصرار السلطات على إغلاق مركز «النديم» لتأهيل ضحايا التعذيب، والتحقيق مع القانونيين الذين حاولوا وضع مشروع قانون لمنع التعذيب، وهو ما يحدث متزامنا مع ملاحقة منظمات المجتمع المدني بإحياء قضية منسية عمرها خمس سنوات تذرعت بحكاية التمويل الأجنبي؟ وكيف نحكم على حسن تدبير الذين يحركون هذه الملفات في أجواء الدوي الذي أحدثته في العالم الخارجي قضية تعذيب وقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، وقبله بيان البرلمان الأوروبي الذي أشهر التنديد بانتهاكات حقوق الإنسان التي تحدث في مصر؟

ردي على السؤالين كالتالي: لا تفسير لتتابع تلك الإجراءات سوى أن السلطات بما أقدمت عليه أعلنت على الملأ أنها مع استمرار التعذيب وضد المنظمات الحقوقية، لأن لديها ما تريد أن تتستر عليه وتخفيه. وقد ضاقت ذرعا بالمنابر والأصوات التي تفضح تلك الممارسات. وهو ما يذكرني بقصة مخفر الشرطة الذي تم تصوير التعذيب الجاري فيه بواسطة أحد الهواتف النقالة، وحين نشرت الصور في بعض الصحف فإن التعليمات لم تصدر بوقف التعذيب أو محاسبة الذين يمارسون التعذيب. ولكنها تشددت في منع إدخال الهواتف النقالة إلى مقر المخفر! لم تكتف الإجراءات المذكورة بتعميم تلك الانطباعات ولكنها وجهت إلى كل من يهمه أمر الباحث الإيطالي رسالة، مفادها أن الشكوك المثارة حول ضلوع الأجهزة الأمنية في الجريمة في محلها، وهو ما تؤيده القرائن المتوافرة. وكان أسخف وأغبى ما قيل في هذا الصدد قول أحد المحسوبين على أبواق النظام، أن الشرطة المصرية تمارس التعذيب بحق مواطنيها فقط، لكن ليس لها تاريخ في تعذيب الأجانب، وهو تبرير ينطبق عليه قول من قال إن الرجل «جاء يكحلها فأعماها». ذلك أنه ثـبَّت التعذيب بحق الأجهزة الأمنية، وسوغه بحق المصريين وحدهم. وكان شيء قريب من ذلك قد تردد على شبكات التواصل الاجتماعي في أعقاب قتل بعض السياح المكسيكيين من خلال القصف الجوى، في أثناء رحلة لهم في الصحراء الغربية. حينذاك ظهرت بعض التعليقات الساخرة التي انتقدت اللجوء إلى قتل المكسيكيين بحجة أن المصريين «لم يقصروا» في القبول بالتصفية واحتمال نتائجها!

السؤال الثاني الخاص بتقييم العقل الذي يدبر المشهد ويوجه بالإقدام على مثل الإجراءات سابقة الذكر، في توقيت متزامن مع التراجع الشديد لسمعة مصر في العالم الخارجي. فأحسب أن إجابته يعرفها الجميع ولا تحتاج إلى تنويه أو شرح. وسواء اعتبر ذلك التزامن دليلا على سوء التقدير ومحدودية الرؤية، أو أنه نشأ عن تعدد أجهزة القرار واختلال رؤاها أو تصارعها، فإن ذلك لا يغير كثيرا من شكوكنا في كفاءة القائمين على هذا الأمر. فضلا عن أن ما جرى يشعرنا بالخوف والقلق ليس لما أفضت إليه تلك القرارات، ولكن لأن هبوط مستوى الأداء في الموضوع، يمكن أن يقع في التعامل مع ملفات أخرى أكثر حساسية الأمر الذي قد يرتب نتائج أفدح وأشد خطرا.

لم يعد الإنكار ممكنا أمام الحقائق الدامغة التي تدين سلوك وممارسات الأجهزة الأمنية، ولم تعد مجدية حملات التجمل التي تطلق من خلال أجهزة الإعلام أو الأبواق الموالية التي تحاول إقناعنا بأن السجون باتت منتجعات سياحية لتدليل المسجونين. وما عاد مقنعا الادعاء بصعوبة التوفيق بين استحقاقات الأمن والحرية، لكن ثمة حقائق ينبغي أن نواجهها بصراحة وشجاعة. الأولى أن الإجراءات التي تمارس باسم حماية الأمن لم تحقق الاستقرار المنشود ولا الأمن المطلوب. الثانية أنها شوهت سمعة مصر وأساءت إليها إساءة بالغة. الثالثة أن الادعاء أن فضح الانتهاكات الحاصلة وراءه دوافع خبيثة لأن مصر بلد مستهدف. صار حجة مبتذلة ومضحكة لأن مصر الراهنة لم تعد تزعج أحدا ولا تشكل خطرا على أحد، وبالتالي فليس هناك ما يبرر استهدافها أو التآمر عليها. ناهيك عن أن سلوك السلطة أصبح يدعو إلى العطف والرثاء وليس الاستفزاز أو التحدي.

الأمر الآخر الذي يغيب عن كثيرين في مواقع السلطة أو القرار، أن مؤسسات مثل مركز النديم أو المنظمات الحقوقية أصبحت تشكل شعاع الأمل الذي يتعلق به كثيرون. ليس من المظلومين فحسب، وإنما أيضا من الوطنيين المعنيين بالشأن العام. ذلك أنه في أجواء موت السياسة، وإزاء تراجع الثقة في العديد من المؤسسات المهمة في مصر ــ أحدثها مجلس النواب ــ فإن المجتمع فقد الأمل في العثور على مؤسسات تعبر عن خيره وأشواقه، ومن ثم أصبحت المنظمات الحقوقية المستقلة هي الشعاع الباقي والطرف الوحيد الذي أصبح يعبر عن أحزان الناس وأوجاعهم. وبعدما اجتمعت إرادات أطراف في السلطة والنخبة السياسية على توظيف الهوى السياسي لإشاعة القمع والإقصاء، فإن تلك المنظمات التي يراد إغلاقها أو إسكاتها باتت الوحيدة التي تدافع عن إنسانية المصريين بمختلف أطيافهم وألوانهم، وحينما تفسد طاقات الأمل في التعبير عن الأشواق والأحزان، فتلك تصبح دعوة ضمنية للفوضى والانفجار.

مصر تصغر كثيرا بالإجراءات القمعية التي تمارس أو التي يجري طبخها إذ تتحول إلى جمهورية «سوفيتية» خارج التاريخ، أما الذين يوجهون أو يمارسون تلك الإجراءات وكذلك الساكتون عليها فمكانهم محفوظ على رصيف التاريخ ومكبات قمامته. فضلا عن أنهم لن يفلتوا من الحساب، على الأقل من جانب الذي يمهل ولا يهمل.

عن صحيفة الشروق المصرية
0
التعليقات (0)

خبر عاجل