قضايا وآراء

قنابل في طريق التغيير الديمقراطي في مصر

قطب العربي
"استخدم سياسة الأرض المحروقة ووضع العديد من القنابل القابلة للانفجار في طريق التغيير السياسي الديمقراطي"- الأناضول
"استخدم سياسة الأرض المحروقة ووضع العديد من القنابل القابلة للانفجار في طريق التغيير السياسي الديمقراطي"- الأناضول
منذ اعتلائه السلطة رسميا في العام 2014 تعهد السيسي بأنه لن يترك هذه السلطة، وتوعد من يقترب من كرسي الحكم بمحوه من على وجه الأرض، وبغض النظر عن مدى جدية أو إمكانية تحقق هذه التهديدات، فإن السيسي شرع على الفور في العديد من الإجراءات العملية التي تحقق له حلمه. لا ننسى أنه حبس قائده العسكري السابق الفريق سامي عنان، وأستاذه العسكري أيضا أحمد شفيق لمجرد أنهما أعلنا نيتهما الترشح للانتخابات الرئاسية، وهو ما كرره حبسا أو ملاحقة مع مرشحين محتملين آخرين مثل عبد المنعم أبو الفتوح، ومعصوم مرزوق، وأحمد طنطاوي.

لم يكتف السيسي بالمنع المباشر، بل إنه استخدم سياسة الأرض المحروقة، ووضع العديد من القنابل القابلة للانفجار في طريق التغيير السياسي الديمقراطي، وهي القنابل ذاتها التي تجعل مهمة أي رئيس مقبل، عسكريا كان أو مدنيا، صعبة بل ربما مستحيلة. ويمكننا هنا أن نشير إجمالا إلى حالة الانقسام المجتمعي، والديون الضخمة، وعسكرة الحياة المدنية، وإطلاق يد المؤسسة العسكرية في الاقتصاد، وعقد اتفاقيات والتزامات دولية لشراء دعم سياسي، لكنها مثلت أطواقا حديدية صارمة في رقبة الدولة والأجيال المقبلة، ومن ذلك أيضا تنازله عن جزيرتي تيران وصنافير، وحقوق مصر في مياه النيل، وبعض الحقوق البحرية، كما هبط بمكانة مصر الدولية في كل المؤشرات المعتبرة، وتسبب في هجرة ملايين المصريين.
لم يكتف السيسي بالمنع المباشر، بل إنه استخدم سياسة الأرض المحروقة، ووضع العديد من القنابل القابلة للانفجار في طريق التغيير السياسي الديمقراطي، وهي القنابل ذاتها التي تجعل مهمة أي رئيس مقبل، عسكريا كان أو مدنيا، صعبة بل ربما مستحيلة

* * *

لنبدأ بحالة الانقسام المجتمعي التي صنعها، وقسّم من خلالها المصريين إلى شعبين، شعب داعم له ويخاطبه باعتبارهم المصريين، وشعب مناهض له ويعتبرهم خونة. وهذا الانقسام طال كل العائلات المصرية تقريبا في الحضر والريف، صحيح أن سياسات النظام القاسية خلال السنوات العشر الماضية خففت كثيرا من هذا الانقسام، لكن تداعياته لا تزال باقية على الأقل بين المعارضة السياسية بين جناحيها المدني والإسلامي، وهذا الانقسام المجتمعي يحتاج إلى تضافر جهود الجميع لترميمه، كما أن مصر أحوج ما تكون إلى الوحدة الوطنية في الظروف التي تمر بها حاليا وهي تتعرض لتهديدات جدية على حدودها الشرقية؛ دفعتها إلى تحريك جزء من قواتها نحوها.

* * *

أما الديون فقد تسلم السيسي الدولة بينما كانت ديونها الخارجية 43 مليار دولار، فقفز بها إلى 168 مليار وفقا للأرقام الرسمية التي لم تضف حتى الآن القروض الجديدة القادمة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبعض الجهات الدولية الأخرى، وهو ما سيرفع قيمتها فوق المائتي مليار دولار، بما يعني أن كل مواطن بمن في ذلك المواليد الجدد مدين بمبلغ ألفي دولار، أي أن الأسرة المكونة من عشرة أشخاص مدينة بعشرة آلاف دولار.

ورغم أن الجزء الأكبر من هذه الديون يعتبر ديونا فاسدة وفقا للتعريفات الدولية، حيث أنه لم يكن ضروريا ولم يسهم في أولويات التنمية، بل كانت لبناء قصور، وطائرات فخمة، ومشاريع ضخمة لا تمثل أي أولوية للوطن أو المواطن، إلا أنها مضمونة بعقود واتفاقات دولية ملزمة لأي حاكم يحكم مصر مستقبلا، وعلى كل حال فإن هذا الأمر يحتاج إلى معركة قانونية دولية، وهذه المعركة تحتاج إلى أجواء دولية داعمة حتى يمكن إسقاط كل أو بعض تلك الديون الفاسدة لاحقا.

* * *

وبمناسبة الحديث عن المشروعات الضخمة، فإن هناك العديد من المشروعات الكبرى التي بدأها السيسي التي تحتاج إلى عقود لاستكمالها ومنها مشروع العاصمة الجديدة، والمونوريل، ما يعني أن عبء ذلك سينتقل إلى أي حاكم جديد لمصر إذا غاب السيسي عن السلطة لأي سبب، صحيح أنه يمكن لأي حاكم جديد أن يحدد أولويات التنمية، وقد لا تكون بعض تلك المشروعات منها، إلا أن إنفاق المليارات عليها في مراحلها الأولى سيجعل من الصعوبة بمكان التوقف عن استكمالها، ما يعني اضطرار الدولة إلى المزيد من الديون الدولية لاستكمالها.

* * *

يرتبط بما سبق ويزيد الأمر تعقيدا تغول الإمبراطورية الاقتصادية للمؤسسة العسكرية، نعلم أن الجيوش في كل دول العالم لديها بعض الصناعات التي تلبي احتياجاتها العسكرية واللوجستية الأخرى من غذاء وملابس.. الخ، ونعرف أن المؤسسة العسكرية في مصر لديها العديد من الأنشطة الاقتصادية منذ العام 1979 بدءا بجهاز مشروعات الخدمة الوطنية، وأنها تضاعفت في عهد مبارك، لكن ما حدث في مصر بعد 2013 فاق الوصف، حيث دخلت المؤسسة في صناعات بسيطة مثل مزارع الأسماك، والخضروات وبيعها للجمهور، ومثل صناعة الكعك وتسويقها في الأعياد.. إلخ، وهو ما أثار سخرية واسعة كان الجيش في غنى عنها. ولم يقتصر التغول العسكري على الاقتصاد على مشاريع اقتصادية تقليدية، بل شمل أيضا مجالات التعليم، والإعلام الذي تم إنشاء شركة ضخمة له تمتلك حاليا عشرات الفضائيات والإذاعات والصحف، وشركات الإنتاج التلفزيوني والدرامي، والإعلان والتسويق، وحتى تنظيم الفعاليات، هذا التوسع لاقتصاد الجيش جاء على حساب القطاع الخاص الذي لم يبق له سوى الفتات، أو القيام بأعمال لصالح الجيش كمقاول من الباطن، وهو ما دفع البعض لتهريب أمواله خارج مصر.

* * *
أحدث الألغام التي زرعها السيسي هي تأسيس اتحاد القبائل العربية، والذي يتولى بنفسه رئاسته الشرفية، وقد أثار هذا الاتحاد هلع المجتمع كونه تطويرا لاتحاد قبائل سيناء الذي كان يمتلك مليشيا عسكرية ساعدت الجيش في مواجهة الإرهاب، وقد كان ذلك أمرا مقدرا، لكن انتقال هذه العقلية والممارسة المليشياوية من سيناء إلى عموم الوطن فيه خطر شديد على الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي

ليست المشكلة فقط في التغول الاقتصادي للمؤسسة العسكرية بل أيضا في التغول السياسي، وعسكرة الحياة المدنية، ما جعلها وصية على المدنية والديمقراطية ذاتها، فضمن مهامها وفقا للمادة 200 من الدستور المعدل "صون الدستور والديمقراطية والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها، ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد".

ولم يعد خافيا حجم العسكريين في مؤسسات مدنية (غير المؤسسات الاقتصادية)، فـ20 لواء جيش وشرطة يتولون منصب المحافظ من بين 27 محافظة، وبخلاف المحافظين والسكرتيرين العامين للمحافظات وغالبهم عسكريون، صدرت في العام 2020 تعديلات على القانون 165 لسنة 2020، لتعيين مستشار عسكري لكل محافظة في مصر وعدد كاف من المساعدين يصدر بتعيينهم وتحديد مهامهم قرارٌ من وزير الدفاع. ليس ذلك فقط، بل أصبح المرور بدورات تدريبية طويلة في الأكاديمية العسكرية شرطا للتوظيف في الهيئات المدنية مثل التعليم والنقل، وحتى الأوقاف، وقد حضر السيسي بنفسه في الأكاديمية العسكرية عدة اختبارات للمرشحين لوظائف مدنية، وأصدر في تموز/ يوليو 2022 قرارا بمنح خريجي الكليات العسكرية درجات علمية تصدرها الجامعات المدنية، ليتساووا مع أقرانهم المدنيين إلى جانب رتبهم العسكرية.

* * *

من الألغام التي زرعها النظام في وجه أي تغيير ديمقراطي أيضا عقده اتفاقيات دولية فاسدة سيكون من الصعب الفكاك منها، مثل التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، رغم حكم المحكمة الإدارية العليا النهائي والبات بتبعيتها لمصر، وكذا التنازل عن حقوق مصر التاريخية في مياه النيل ضمن إعلان المبادئ الذي وقعه السيسي ولم يضمن فيه الحصة، وهو الإعلان الذي فتح الباب لإثيوبيا للحصول على تمويلات دولية وفيرة لإكمال مشروعها، والتلاعب بالجانب المصري في جولات تفاوض عبثية كانت محض فرصة لأديس أبابا لاستكمال بناء وتشغيل السد.

* * *

أحدث الألغام التي زرعها السيسي هي تأسيس اتحاد القبائل العربية، والذي يتولى بنفسه رئاسته الشرفية، وقد أثار هذا الاتحاد هلع المجتمع كونه تطويرا لاتحاد قبائل سيناء الذي كان يمتلك مليشيا عسكرية ساعدت الجيش في مواجهة الإرهاب، وقد كان ذلك أمرا مقدرا، لكن انتقال هذه العقلية والممارسة المليشياوية من سيناء إلى عموم الوطن فيه خطر شديد على الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي. فمصر ليست بحاجة إلى اتحاد للقبائل العربية التي هي جزء طبيعي من نسيج المجتمع، لكن النظام أراد من خلال هذا الاتحاد صناعة ظهير شعبي قَبَلي له، متجاهلا خطورته على الوطن نفسه، ومصر بالتأكيد تحتاج إلى من يسير بها إلى الأمام وليس إلى الخلف، وفتح الحياة السياسية وتقوية الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني الحديث، بدلا من إحياء النعرات القبلية والعنصرية التي تجاوزتها مصر منذ بدء الدولة الحديثة.

* * *
مصر في هذه الظروف في أمسّ الحاجة إلى حوار وطني حقيقي حول القضايا السابقة، وصولا إلى مواقف توافقية تجاهها، تخفف من تأثيراتها على الوطن، وتحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، كما أن مصر تحتاج حاليا إلى توحيد جبهتها الداخلية في مواجهة الأخطار المحدقة عبر الحدود

إن كل ما سبق أنتج في النهاية صورة سلبية لمصر، وتسبب في تراجع مكانتها الإقليمية والدولية، حتى أصبحت تابعة لدولة لا يساوي عدد سكانها سكان أحد أحياء القاهرة، كما ظهر ضعفها وترددها في التعامل مع الخروقات الإسرائيلية المتكررة للحدود المصرية، بلغت حد دخول القوات الإسرائيلية بمدرعاتها ودباباتها ممر فيلادلفيا، بالمخالفة الواضحة لاتفاقية السلام وملاحقها، كما تراجعت مصر على المؤشرات العالمية في الكثير من المجالات. وقد تسببت الأوضاع الاقتصادية المتردية في مصر إلى هجرة أعداد ضخمة من المصريين، سواء هجرات شرعية أو غير شرعية عبر مراكب الموت، وفقد الكثيرون حياتهم في تلك الرحلات في عرض البحر، والآن يبلغ عدد المصريين في الخارج 14 مليون نسمة.

إن مصر في هذه الظروف في أمسّ الحاجة إلى حوار وطني حقيقي حول القضايا السابقة، وصولا إلى مواقف توافقية تجاهها، تخفف من تأثيراتها على الوطن، وتحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، كما أن مصر تحتاج حاليا إلى توحيد جبهتها الداخلية في مواجهة الأخطار المحدقة عبر الحدود، وهذا يستدعي عفوا عاما عن سجناء الرأي، وفتح المجال السياسي، وحرية الإعلام، والتوافق حول أولويات الوطن الملحة.

twitter.com/kotbelaraby
التعليقات (0)