قضايا وآراء

قراءة في الاجتماع الأخير لمجلس الأمن القومي التونسي

عادل بن عبد الله
ملف الهجرة غير النظامية- جيتي
ملف الهجرة غير النظامية- جيتي
في ظل نظام برلماني معدل يستأثر فيه رئيس الوزراء بأهم السلطات، لم يكن لرئيس الدولة قبل "إجراءات" 25 تموز/ يوليو 2021 سلطة تتجاوز الملفات التي أسندها إليه دستور 2014، ومنها ملف السياسة الخارجية والأمن القومي باعتبار الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة. ومنذ وصول الرئيس قيس سعيد إلى قصر قرطاج بعد انتخابات 2019؛ حاول تأويل معنى القيادة العليا للقوات المسلحة باعتبارها قيادة لكل القوات الحاملة للسلاح بما فيها الأمن والديوانة وليس فقط الجيش الوطني. وبالإضافة إلى الأزمات البرلمانية المتعاقبة التي أضعفت مصداقية الأحزاب البرلمانية وجعلت الرئيس يفرض رئيس وزراء من خارج ترشيحات الأغلبية البرلمانية (إلياس الفخفاخ) وآخر من خارج كل الترشيحات البرلمانية (هشام المشيشي)، نجح الرئيس في استثمار شعبيته الكبيرة لكسب المخيال السياسي الشعبي المطبّع مع مركزة السلطة وشخصنتها منذ بناء الدولة الوطنية (الدولة-الأمة).

قبل إعلان إجراءاته، استطاع الرئيس -بصفته خبيرا دستوريا- أن يتأول الدستور بطريقة جعلته يتحول واقعيا إلى مركز الحقل السياسي والحكم بين مختلف الفاعلين فيه. وهو ما كان يعني بداية التنازع في السلطات بينه وبين رئيس الحكومة وحزامه الحزبي، خاصة حركة النهضة التي تمثل القوة البرلمانية الأهم، كما كان يعني الدخول في أزمة دستورية وسياسية وجدت حلها في إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 التي أعلنها الرئيس أمام "مجلس الأمن القومي"؛ مُنهيا مسار الانتقال الديمقراطي وهيمنة البرلمان والأحزاب ورئاسة الحكومة على السلطة، ومؤسسا -بمشروع الديمقراطية المجالسية أو المباشرة- لنظام رئاسوي يقوم على نفي الحاجة إلى الأجسام الوسيطة، خاصة الأحزاب التي هي ركيزة الديمقراطية التمثيلية.

يمكن لأي متابع للشأن التونسي أن يلاحظ هيمنة اجتماعات مجلس الأمن القومي على نشاطات الرئيس منذ وصوله إلى قصر قرطاج مقارنة باجتماعات الحكومة. وقد كان هذا الأمر منطقيا قبل "الإجراءات" باعتبار محدودية صلاحيات الرئيس وعدم سيطرته على الحكومة التي شكّلتها الأغلبية البرلمانية، ولكن بعد 25 تموز/ يوليو 2021 أصبح الرئيس قيس سعيد هو رئيس السلطة التنفيذية وأسند لنفسه سلطات تشريعية واسعة

يمكن لأي متابع للشأن التونسي أن يلاحظ هيمنة اجتماعات مجلس الأمن القومي على نشاطات الرئيس منذ وصوله إلى قصر قرطاج مقارنة باجتماعات الحكومة. وقد كان هذا الأمر منطقيا قبل "الإجراءات" باعتبار محدودية صلاحيات الرئيس وعدم سيطرته على الحكومة التي شكّلتها الأغلبية البرلمانية، ولكن بعد 25 تموز/ يوليو 2021 أصبح الرئيس قيس سعيد هو رئيس السلطة التنفيذية وأسند لنفسه سلطات تشريعية واسعة -بالمراسيم والأوامر- بعد تعليق أعمال البرلمان وحله في مرحلة ثانية. وفي هذا السياق الجديد الذي يصبح فيه رئيس الحكومة مجرد نائب لرئيس الدولة عند الإشراف على مجلس الوزراء، لم يحرص الرئيس قيس سعيد على تأكيد صفته رئيسا للسلطة التنفيذية كلها بالإشراف على مجلس الوزراء؛ بقدر حرصه على تلك الصفة باجتماعات مكثفة مع بعض الوزراء (خاصة وزير الداخلية ووزيرة العدل) وكذلك برئاسة مجلس الأمن القومي.

منذ تأسيسه بمرسوم وقعه الوزير الأول الباهي الأدغم، ورغم تغير تسمياته وتركيبته قبل الثورة وبعدها (مجلس الدفاع الوطني 1970، المجلس الوطني للأمن 1990، مجلس الأمن القومي 2017) أوكلت لهذا المجلس وظيفة حماية الأمن الداخلي والخارجي لتونس. ولا شك في أن معنى "الأمن القومي" هو معنى متغير حسب السياقات والتحديات الموضوعية من جهة أولى، وحسب المصلحة السياسية للنظام الحاكم والمناخ الديمقراطي من جهة ثانية. فـ"التسييس" هو أمر ملازم لمفهوم الأمن القومي والمخاطر المهددة للنظام الحاكم، وليس الرئيس قيس سعيد بِدعا من السياسيين عندما وظّف "الأمن القومي" لأغراض سياسية قد لا تبدو ذات علاقة قوية بأي تهديد أمني جدّي للدولة أو للمجتمع، وإن كانت قد تهدد النظام الحاكم وتضعف شرعيته.

في اجتماعه الأخير بأعضاء مجلس الأمن القومي، يبدو أنّ موضوع المهاجرين غير الشرعيين (من دول جنوب الصحراء) يتجه نحو التحول إلى القضية الأهم من قضايا "الأمن القومي" دون أن تدفع بباقي الملفات السياسية والمدنية إلى خلفية المشهد. بل إننا نذهب إلى القول بأن قضية المهاجرين غير الشرعيين إلى تونس هي "الموضوع المتاح" الذي يجب تضخيمه في إطار الحرب المفتوحة ضد "الموضوع المقصود"، وهو كل الفاعلين الجماعيين الذين يعارضون الرئيس قيس سعيد سياسيا أو يتحركون خارج أجهزة الدولة مدنيا. فرغم أن الأرقام الرسمية التي تضبط عدد أفارقة جنوب الصحراء بتونس تتحدث عن 21 ألفا سنة (المعهد الوطني للإحصاء) وعن 80 ألفا سنة 2023 منهم 17 ألفا في محافظة صفاقس (وزير الداخلية كمال الفقي)، فإن الرئيس يغذي سردية الخوف الشعبي من "التوطين" وتغيير النسيج المجتمعي. فهو يؤكد تلك السردية -دون إعطاء أي دليل- باعتبارها جزءا من الخيارات اللاوطنية لأولئك "الخونة" الذين حكموا قبل "تصحيح المسار"، والذين ما زالوا يطمعون في العودة إلى الحكم عبر الانتخابات الرئاسية القادمة.

في البنية العميقة للجملة السياسية الرئاسية، فإن "المعارضة" أو "النقد" أو "الاستقلالية" أو عدم توسط الدولة وأجهزتها يطابق بالضرورة "الخيانة" و"العمالة" و"الارتماء في أحضان الخارج"، وهو ما يجعل السياسيين والناشطين المدنيين جزءا من تنظيم إجرامي محلي مرتبط بالتنظيمات الإجرامية الدولية. فأن يعمل بعض السياسيين سابقا على "توطين" أفارقة جنوب الصحراء في تونس؛ لا يختلف في شيء عن أن يعمل غيرهم على استهداف البلاد بالمخدرات أو أن تعمل بعض منظمات المجتمع المدني على استضافة المهاجرين غير الشرعيين في النزل ولو مؤقتا (المجلس التونسي للاجئين).

إننا أمام وجوه مختلفة للشر، وهي وجوه لا يقابلها إلا وجه واحد للخير: وجه النظام الحاكم وأجهزته التنفيذية وامتداداته المدنية (الهلال الأحمر التونسي). وقد ينجح الشر في اختراق أجهزة الدولة بتستر بعض المسؤولين عن "الآلاف من ملفات الفساد"، ولكنّ وجودهم في أجهزة الدولة لا يجعلهم في مأمن ولا يعطيهم أية حصانة، فمن يخون "الأمانة" يصبح خطرا على الأمن القومي وتنبغي محاسبته مع من يتستر عليهم.

يبدو أن ملف الهجرة غير النظامية لأفارقة جنوب الصحراء سيعمل تدريجيا على تحويل منظمات المجتمع المدني إلى عدو أساسي للنظام، كما يبدو أن منطق المواجهة لن يختلف في مفرداته وآلياته وغاياته عن ذلك الذي حكم علاقة السلطة بخصومها السياسيين. فـ"أكثر من يشرف على هذه الجمعيات خونة وعملاء"، بل هم أبواق مأجورة يتلقّون المليارات (ملايين الدنانير التونسية) لممارسة ما يطلبه منهم ممولوهم دون أن تكون لهم القدرة على "التفكير"، ولذلك فإن ما يطالبون به من الحق في التعبير (نقد الدولة وسياساتها في ملف الهجرة غير النظامية للأفارقة إلى تونس أو للتونسيين إلى أوروبا)، هو أمر لا علاقة له بـ"حرية التعبير". فهو تطاول على الدولة مما يخرجه من دائرة الحريات العامة إلى دائرة تهديد الأمن القومي والمساءلة القانونية، وعلى المنظمات الدولية (مثل المفوضية العليا لشؤون اللاجئين ومنظمة الهجرة الدولية) أن تتعامل مع الجهات الرسمية أو شبه الرسمية (الهلال الأحمر التونسي الذي يعتبره الرئيس أفضل من نظرائه في دول الشمال)، وأن تتجاوز هي الأخرى منطق البيانات والبلاغات، وهو ما يعني ضمنيا الابتعاد عن نقد السلطات التونسية.

إذا كان موضوع المهاجرين يستدعي منطقيا جملة من القضايا ذات الصلة (اللجنة الوطنية للتحاليل المالية، تمويل منظمات المجتمع المدني، دور المنظمات الدولية الناشطة في مسألة المهاجرين، تهديد سلطة الدولة بإقامة مليشيات ومحاكم للمهاجرين تنشط خارج القانون) فإنه لم يكن إلا مناسبة لإثارة قضايا محلية لا علاقة لها إلا بضرب من التعسف بذلك الموضوع.

أغلب المنظمات الدولية ليست إلا أداة من أدوات الهيمنة والتدخل الخارجي في شؤون الدول، ولكن محاولة ربط المعارضة السياسية بهذا الملف تبدو أمرا مثيرا للقلق. فالحديث عن أطراف متورطة في مشروع "التوطين" مقابل أموال طائلة، دون تحديد تلك الأطراف والجهات الأجنبية الممولة لها، هو اتهام لا يختلف في جوهره عن اتهام بعض رموز المعارضة بالتآمر على أمن الدولة مع جهات أجنبية دون تحديد تلك الجهات أو استدعائها للوقوف أمام المحاكم التونسية

فنحن لا نشك في وجاهة طرح موضوع تمويلات الجمعيات المدنية وطبيعة ارتباطاتها الخارجية، كما لا نشك في أن أغلب المنظمات الدولية ليست إلا أداة من أدوات الهيمنة والتدخل الخارجي في شؤون الدول، ولكن محاولة ربط المعارضة السياسية بهذا الملف تبدو أمرا مثيرا للقلق. فالحديث عن أطراف متورطة في مشروع "التوطين" مقابل أموال طائلة، دون تحديد تلك الأطراف والجهات الأجنبية الممولة لها، هو اتهام لا يختلف في جوهره عن اتهام بعض رموز المعارضة بالتآمر على أمن الدولة مع جهات أجنبية دون تحديد تلك الجهات أو استدعائها للوقوف أمام المحاكم التونسية. كما أن نقل خطاب التخوين والتآمر مع الخارج من الحقل السياسي إلى الحقل المدني مؤذن باستهداف المجتمع المدني وضرب حرية النشاط خارج وصاية الدولة أو لخدمة النظام الحاكم.

ختاما، فإن توسيع صلاحيات مجلس الأمن القومي (عرض ملفات الصلح الجزائي وجوبا على المجلس قبل عرضها على مكلف العام بنزاعات الدولة) هو خيار يضعف صلاحيات الحكومة، ويعطي لهذا الملف الاقتصادي بعدا "أمنيا" هو في جوهره شكل من أشكال الضغط التي يرفضها الرئيس في شكلها "الابتزازي" المعتمد من لدن الحكام السابقين. كما أن حديث الرئيس عن ضرورة تجاوز مرحلة التشخيص للمخاطر التي يواجهها الأمن القومي إلى مرحلة الإجراءات هو كلام ملتبس وحمّال أوجه؛ ذلك أن وضع "السياسي" و"رجل الأعمال" و"المسؤول" و"الناشط المدني" الذي يعارض السلطة أو يرفض إملاءاتها؛ في خانة واحدة -أي في خانة الخيانة والعمالة والتآمر مع جهات أجنبية- يعني أنه سيتم التعامل معهم باعتبارهم أعداء للوطن وللشعب. وهو توصيف هلامي قد يشرعن بعض التشريعات التي ستضيق بالضرورة هامش الحريات في مستوى التعبير الفردي والتنظيم الجماعي.

وبحكم ضعف المعارضة الجذرية وانتهازية الموالاة النقدية، فإننا نرجح استمرار موازين القوى المختلة بين النظام وبين المجتمع في تعبيراته السياسية والمدنية. وهو اختلال لا يبدو أنه سيتعدل في المدى المنظور، مما يجعل فوز الرئيس بعهدة رئاسية ثانية أمرا متوقعا بصرف النظر عن مزايدات المعارضة التي هي أقرب ما تكون إلى "أحلام اليقظة" بحكم قيامها على مبدأ الرغبة لا على مبدأ الواقع.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)