مقالات مختارة

ماذا يحدث في جامعة كولومبيا؟!

يحيى عبدالمبدي محمد
 تتعرض الجامعات الأمريكية وإداراتها لحملات ترهيب من الكونغرس، والحكومة الفيدرالية بصورة غير مسبوقة- جيتي
تتعرض الجامعات الأمريكية وإداراتها لحملات ترهيب من الكونغرس، والحكومة الفيدرالية بصورة غير مسبوقة- جيتي
 على ضفة نهر هدسون الغربية فى حي منهاتن تقع واحدة من أقدم الجامعات الأمريكية وأعرقها، وهي جامعة كولومبيا التي تأسست عام ١٧٥٤. تعد جامعة كولمبيا ذات تاريخ عريق، وسمعة أكاديمية وبحثية متميزة. للجامعة تراث معماري، وبهاء يلفت نظر كل من زارها، ناهيك عن مكتبتها التاريخية النادرة. كل شيء فى كولومبيا يدل على العراقة، والرقي، والإبداع. أما عن الأنشطة الطلابية، والفعاليات الثقافية، وحرية الرأي والتعبير فحدث ولا حرج. وما يجعل من حالة جامعة كولومبيا أمرا فريدا لنا نحن العرب، ولدراسات الشرق الأوسط وللقضية الفلسطينية، هو ذلك الزخم التاريخي في دعم ومناصرة القضايا العربية خاصة الفلسطينية على مدار عقود طويلة لدرجة أنها تعرف بين الدارسين بأنها جامعة بيرزيت (الفلسطينية) على نهر هدسون. لطالما شهد حرم الجامعة ومبانيها وقاعاتها أحداث التضامن وفعالياته. ومظاهر دعم أساتذة وطلاب جامعة كولومبيا وتضامنهم مع قضايا العرب وفلسطين معروفة لكل متابع.

جامعة كولومبيا هي جامعة إدوارد سعيد التي شهدت مولد كتاب الاستشراق وغيره من إسهامات سعيد الفلسفية والنقدية، وبها أحد أهم برامج دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة، كما أنها تزخر بوجود عدد من الدارسين المرموقين في الدراسات العربية والإسلامية من أمثال رشيد الخالدي، وحميد دباشي، ووائل حلاق، وليلى أبو لغد، وجوزيف مسعد، وتوفيق بن عمر وغيرهم.
كذلك كانت سمعة الجامعة تسبقها في توفير منصات وفضاءات للنقاش والتوعية، وتعزيز فهم أعمق وأكثر حيادية لقضايا الشرق الأوسط، وفي الدفاع عن قضايا الحريات والحقوق، وذلك من خلال الفعاليات الأكاديمية والثقافية، والأنشطة الطلابية.

هكذا كانت جامعة كولمبيا حتى بداية أحداث غزة. لقد تغير الحال، وتبدلت السياسات الجامعية على نحو درامي وصادم خلال شهور قليلة في ظل حملات الإرهاب الفكري، و«محاكم التفتيش»، وموجة المكارثية الجديدة التي تشهدها الجامعات الأمريكية في ما يتعلق بمناصرة القضية الفلسطينية، والتنديد بالإبادة التي يتعرض لها قطاع غزة.

ففي يوم الخميس الماضي، وللمرة الثانية في تاريخ الجامعة العريقة (كانت المرة الأولى عام ١٩٦٨)، تدخل الشرطة إلى حرم الجامعة، وتعتقل ما يزيد على المئة طالب وطالبة بعد أن استدعتها إدارة الجامعة لإخلاء مخيم صغير في حديقة الجامعة، للمتظاهرين تعبيرًا عن التضامن مع غزة، في مشهد مخزٍ يمكن مشاهدته على منصات وسائل التواصل الاجتماعي. وذلك في أعقاب تعهّد رئيسة الجامعة نعمت شفيق (من أصل مصري) بعقاب الطلاب الذين يحتجون في حرم الجامعة بلا تصريح. وكانت إدارة الجامعة قد علّقت في وقت سابق نشاط عمل مجموعتين طلابيّتين هما: «طلاب من أجل العدالة في فلسطين»، و«الصوت اليهودي من أجل السلام»، بداعي القيام باعتصام دون تصريح.

كل إجراء وقح يقيد الحريات في الجامعات الغربية، لا بد أن يتناسب ويتوافق مع القانون، وهذه رذيلة من رذائل الحداثة الغربية، وقيم الدولة الحديثة في الثقافة الغربية. التهمة السخيفة التي استغلتها إدارة الجامعة والشرطة هي «التعدي على ممتلكات الغير!». يا لها من تهمة أمريكية الثقافة بامتياز، ففي الثقافة الأمريكية يمكن لأحدهم قتلك بالرصاص إذا وجدك في حديقة منزله، وشك في أسباب وجودك أو مصادفة وجودك.

وفي محاولة للتأكد من حدسي حيال تحيز منصات الذكاء الاصطناعي الراهنة، سألت تشات جى. بي. تي: ماذا يحدث في جامعة كولومبيا، وهل هناك اضطرابات واعتقالات للطلاب؟ وكانت الإجابة، لا يوجد لدي معلومات حول هذا الأمر، عليك أن تتواصل مع إدارة الجامعة للحصول على معلومات موثقة، فأضفت أن الصحف الأمريكية قد قامت بالفعل بتغطية الأحداث، فكانت الإجابة: تواصل مع الصحف للحصول على هذه المعلومات. هذا يحدث فقط في القضايا التي تخالف السائد والمقبول في العقل الغربي، وما دون ذلك فعادة ما تكون الإجابة متوقعة.

تحدثت هاتفيا إلى صديقي الذي يدرّس بجامعة كولومبيا لأكثر من ربع قرن، وطلبت منه استيضاح الصورة، وكيف تحولت الأوضاع في الجامعة العريقة على هذا النحو، فأجابني بالتعبير المصري، إنها «مسخرة» لم يشهدها طوال سنوات عمله في الجامعة، ولكن ما جعله مطمئنا هو ثقته بأعراف الجامعة التي ستنتصر لقضايا الحريات في نهاية المطاف، وقبل ذلك صمود الطلاب ووعيهم. وهو ما أكدته الطالبة مريم علوان أحد رموز الاحتجاجات لوسائل الإعلام بأن التهديد بالشرطة لن يؤدي إلا إلى مزيد من التعبئة.

 تتعرض الجامعات الأمريكية وإداراتها إلى حملات ترهيب من الكونغرس، والحكومة الفيدرالية بصورة غير مسبوقة، فقد تم استدعاء رؤساء جامعات هارفارد وبنسلفانيا وغيرها لجلسات استماع واستجواب من قبل لجان الكونغرس، تميزت بالوقاحة في توجيه الأسئلة والتهديد. وكانت نعمت شفيق آخر من وقف مع مجموعة من قادة جامعة كولومبيا الأسبوع الماضي وفقا لصحيفة نيويورك تايمز أمام لجنة التعليم التي يقودها الجمهوريون في مجلس النواب. وربما كانت هذه الجلسة، قد أثرت على تحول موقف الدكتورة شفيق، واتخاذها مواقف عدائية ضد الطلاب واحتجاجاتهم. فقد ذكرت شفيق في شهادتها بأنها تشعر بالإحباط لأن سياسات الجامعة لم تكن على قدر الحدث، وتعهدت باتخاذ الجامعة مواقف أكثر صرامة. وكانت أولى الخطوات توجيه تحذير مكتوب للطلاب بضرورة فضّ المخيم، ثم استدعاء الشرطة. وهددت الجامعة باتخاذ إجراءات تأديبية في حق الطلاب تشمل الإيقاف والفصل.

أدرك أن حجم الضغوط على الدكتورة شفيق وإدارة الجامعة كبيرة، ولكن لا بد أن تدرك وإدارة الجامعة أن هذه ليست جامعة عادية، إنها كولومبيا ذات التاريخ والإرث العريق التي لا ينبغي أن تخنع أمام تهديدات لجان الكونغرس المُسيّسة. استدعاء الشرطة لن يؤدي إلى قمع الأصوات الحرة، بل إنه يُفقد الجامعة نزاهتها وسمعتها، وفي الوقت ذاته يثير حفيظة المزيد من الطلاب وغضبهم. إن الجامعات الأمريكية والغربية عموما تقف اليوم في معركة حرية الرأي والنزاهة على المحك. فإما أن تحترم قيمها الديمقراطية العتيدة، أو أن تتوقف عن ريائها، وتلقين شعوب العالم دروسا حول الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.

(الشروق المصرية)
التعليقات (0)